نظرة من الداخل: رواية موظف دولي في أطباء بلا حدود للوضع الإنساني الرهيب في كسلا، شرق السودان.

Sudan
تمرير
29 مارس 2024
الدول ذات الصلة
السودان
شارك
طباعة:
 Matt Cowling
مات كولينغ مدير للشؤون الإنسانية في الخرطوم في منظمة أطباء بلا حدود

في مارس/آذار 2023، شرع مات كولينغ في مهمته الأولى مع منظمة أطباء بلا حدود في السودان كمدير للشؤون الإنسانية ليعمل من الخرطوم. لكن النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع اندلع في منتصف أبريل/نيسان. لمدة عام تقريباً، تنقّل مات مع منظمة أطباء بلا حدود، في أدوار مختلفة في استجابتنا الطارئة على طول طريق نزوح الشعب السوداني في أنحاء البلاد. ودفعته تجربته على مدى عام إلى مشاركة ملاحظاته حول وضع النزاع المستمر في السودان.

بدأتُ مهمتي مع أطباء بلا حدود في السودان في العاصمة الخرطوم. كنت متحمساً لبدء هذا العمل الجديد وأن أكون جزءاً من عمليات المنظمة في البلاد. كانت الثقافة السودانية الغنية مثيرة للاهتمام وجديدة بالنسبة لي. وشجعني أن منظمة أطباء بلا حدود هنا منذ فترة طويلة. لم أكن أعرف كم سيكون وقتي في السودان مليئاً بالأحداث والتحديات.

عندما اندلع القتال لأول مرة في الخرطوم في منتصف أبريل/نيسان، اضطررنا إلى قضاء ثمانية أيام دون خروج في الخرطوم، وهو أمر لم يكن أحد منا مستعداً له. لم يتوقع أحد حدوث النزاع، ظننا جميعاً أنه سيكون في دارفور ولم نتوقع أن يحدث قتال في شوارع الخرطوم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وفي المنطقة التي كنا موجودين فيها - وهي منطقة في الجزء الأوسط من الخرطوم تسمى العمارات. كنا آمنين نسبياً في بيت الضيافة الخاص بنا، لكن زملاء آخرين من أطباء بلا حدود الآخرين كانوا قريبين جداً من القتال. في الواقع، كانت الطائرات المقاتلة تحلّق باستمرار في السماء، وكانت الانفجارات تحدث بشكل متواصل. لقد كان وقتاً عصيباً بشكل لا يصدق.

كان الإخلاء كذلك مرعباً بنفس القدر إن لم يكن أكثر، ولم يكن واضحاً. كنا نحاول أن نفهم أين كانت نقاط التفتيش، للخارجين من المدينة، لكن أحداً لم يكن يعرف. في نهاية المطاف، نظمت أطباء بلا حدود قافلة إلى القضارف حيث بقيتُ لمدة شهر. ثم انتقلتُ للعمل مع فريق الاستجابة الطارئة الموجود في بورتسودان. هناك، أصبت بحمى الضنك وتم إخلائي طبياً لتلقي العلاج. أخذت بعض الوقت للتعافي قبل العودة إلى بورتسودان في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، حيث عملت مع مكتب تنسيق أطباء بلا حدود قبل التوجه إلى ود مدني ثم تنيدبا في القضارف.

 

نزوح في كل اتجاه

لن أنسى أبداً امرأة قابلتها أثناء عملي في القضارف. كانت تعيش في مأوى مؤقت في موقع تجمع مع أطفالها. كانت تتحدث الإنكليزية بشكل جيد وأخبرتنا عن قلة المساعدات التي تحصل عليها. التقيتهم لأول مرة في تنيدبا، حيث كنا نقدم المساعدة الغذائية ونسيّر عيادة متنقلة.

وبعد شهر، وبسبب ندرة الموارد والخيارات المحدودة، انتقلوا إلى كسلا، إلى مركز استقبال. هناك عرفتني عندما رأتني. كانوا يشعرون بخيبة أمل بسبب نقص المساعدة وبحاجة ماسة لإيجاد الأمان. طُلب منهم مغادرة المدينة، لكنهم لم يعرفوا إلى أين يذهبون. وكانوا في حاجة ماسة إلى الطعام.

رؤية نفس الشخص في مدينة مختلفة في ظل نفس الظروف الصعبة أمر أثَّر فيَّ كثيراً. كان أمراً عجيباً أنني كنت في نفس المكان في نفس الوقت الذي كانت فيه مرتين. وكانت تلك لحظة بارزة بالنسبة لي.

في 15 ديسمبر/كانون الأول، اندلعت اشتباكات جديدة بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في ولاية الجزيرة، عندما امتد النزاع إلى ود مدني، فر مئات الآلاف من الناس إلى ولايات مجاورة مثل القضارف وكسلا والبحر الأحمر، التي تشكل شرق السودان. كنا نجري تقييماً في ولاية كسلا، ثم بدأت أطباء بلا حدود في تقديم المساعدات.

كانت الأوضاع في ود مدني شديدة بالفعل، مع محدودية الوصول إلى الرعاية الصحية، وكان العديد من الناس يعيشون في تجمعات غير رسمية أو مواقع تجمع، معظمها مدارس، لكن الناس كانوا ينامون أيضاً في الشارع. كان هناك ما يقرب من 40,000 نازح نزحوا إلى كسلا، إضافة إلى أكثر من 150,000 شخص موجودين بالفعل في الولاية في أعقاب الاشتباكات في الخرطوم في العام السابق. بدأت أطباء بلا حدود في دعم أربعة مراكز للرعاية الصحية الأولية، حيث قدمت حزمة كاملة من الرعاية الصحية الأولية، بما في ذلك إحالات الصحة الجنسية والإنجابية. واستمر هذا الجهد لمدة ستة أسابيع، وبعد ذلك تم تمديد المشروع لمدة أربعة أسابيع أخرى. خلال هذه الفترة الإضافية، أنشأت المنظمة عيادات متنقلة تستهدف مواقع التجمع الرئيسية.

 

الدواء أم الطعام؟

في العيادة المتنقلة، في فصل الشتاء في السودان، غالباً ما تؤدي أعراض مثل السعال والرشح والإنفلونزا إلى التهابات الجهاز التنفسي، وهي أكثر الأمراض شيوعاً. قد يكون العيش في ملاجئ غير ملائمة في الهواء الطلق غالباً وغير مجهزة بما يجب، عاملاً مقلقاً في تفاقم هذه الأمراض. إلى جانب ذلك، شهدنا أمراضاً مزمنة وعقبات كبيرة أمام وصول الناس إلى أدوية الأمراض المزمنة. على سبيل المثال، ارتفعت أسعار الأنسولين بشكل كبير؛ فعندما يعيش الناس في مواقع تجمع، وبعد انهيار الصندوق الوطني للتأمين الصحي، وحدوث أعمال النهب، وفقدان الإمدادات من الصندوق الوطني للإمدادات الطبية، ارتفعت تكلفة الأدوية، خاصة للأمراض المزمنة مثل السكري، ولا يستطيع الناس ببساطة تحملها.

يضطر الناس إلى اتخاذ قرارات مثل، "هل أشتري الطعام، أم أشتري الأنسولين؟" ويعيشون مستوى هائلاً من التوتر، وهو ما يضر أيضاً بصحتهم إذا كان لديهم مرض مزمن، لا سيما عندما يجب عليك اتباع نظام غذائي معين وتوفير احتياجات عائلتك وأنت تعيش في موقع تجمع مكتظ يعاني من نقص في كل شيء.

 

محاولات مساعدة صغيرة وغير كافية لكنها تصنع فارقاً

في محاولة للتخفيف من قلة المياه، تمكنا من ربط بعض مواقع التجمع بخط مياه المدينة. تدخلنا في 47 موقع تجمع، مما أدى إلى تحسين الوصول إلى المياه وإجراء عمليات إعادة تأهيل كبيرة للمراحيض.

في أحد مواقع التجمع، المكون بمعظمه من عائلات لديها أفراد يعانون من إعاقة، إما مستخدمي الكراسي المتحركة أو أولئك الذين كانوا على عكازات قبل النزاع، حرص فريقنا على وجود منحدرات ومقابض في المراحيض لتسهيل الوصول إليها. بلغت استجابتنا الطارئة التي استمرت عشرة أسابيع منتهاها. وللأسف، لا تزال الاحتياجات الماسة للنازحين والمجتمعات المضيفة غير ملباة إلى حد كبير، مع عدم متابعة أي جهات فاعلة إنسانية أخرى تقريباً أعمال المساعدة بعد إغلاق استجابتنا الطارئة في كسلا.

إن المساعدات التي تقدمها المنظمات في الوقت الحالي لا تعدو قطرة في المحيط. الفجوات كبيرة لدرجة أنه قد يبدو أن هذه المساعدات لا تحدث فارقاً. لكن على الرغم من عدم كفايتها، إلا أنها لا تزال تحدث فارقاً ملموساً في الحياة اليومية لبعض الناس.

قدمت بعض المنظمات المساعدة الغذائية، ويعتمد الناس على جيرانهم، وما يجود به الأهالي، والناس الخيّرون، وأفراد الأسرة الممتدة، وثقافة الضيافة. ويؤدي ذلك إلى تصعيد احتياجات المجتمعات المضيفة التي تأتي منها المساعدة في الغالب.

 

نزاع طال أمده وواقع كئيب

اضطرت عائلة من دارفور، نزحت إلى الخرطوم، إلى مواجهة النزوح مرة أخرى، وهذه المرة إلى ود مدني، عندما بدأ النزاع في أبريل الماضي. الأم التي كانت حاملاً في الشهر التاسع، وضعت مولودها في موقع تجمع. وكلاهما بخير، لحسن الحظ. ومع ذلك، عندما وصل النزاع إلى ود مدني، اضطروا إلى النزوح إلى القضارف.

تفرقت الأسرة عند الرحلة بعد فرارها من ود مدني، حيث خضع ابنها البالغ من العمر سبع سنوات لعمليات جراحية متخصصة لإصابة في دماغه (ناجمة عن شظية). ظنوا أنه سيكون من الأسهل على الأب العثور على مكان لمواصلة علاج ابنه بمفرده. وبعد وقت عصيب، تمكنت الأسرة من جمع شملها في موقع التجمع في تيندبا. كان هذا العلاج المتخصص متاحاً فقط في ود مدني. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المرافق متاحة فقط للناس عندما يعبرون خطوط المواجهة العنيفة ويخاطرون بحياتهم للوصول إلى ود مدني؟ قدمت منظمة أطباء بلا حدود الرعاية الأساسية والتضميد ومكافحة العدوى للطفل، لكننا لم نتمكن من توفير العلاج المتخصص الذي ما زال بحاجة إليه.

لقد طال أمد معاناة الناس. ومن اللافت للنظر قلة الاهتمام الذي يحظى به السودان، وكيف يتم إخفاء ما يمر به الناس هناك عن العالم. يتم تجاهل الوضع في السودان إلى حد كبير من قبل وسائل الإعلام. وأعتقد أن هذا يرجع في المقام الأول إلى أن الصحفيين لا يمكنهم دخول البلاد وأن المنظمات لا تتحدث علناً بما فيه الكفاية حول ما يحدث. نحن نواجه مشكلات في التنسيق واستجابة تعاني من نقص كبير في التمويل. الوضع الآن أن هناك أناس قد نزحوا عدة مرات والاحتياجات هائلة. هناك جانب قاتم آخر لهذا الوضع داخل المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، حيث الوصول محدود للغاية: ما نراه هو انعدام شديد في الأمن الغذائي، وهو مصدر قلق كبير للمستقبل لأنه قد مر عام تقريباً على بداية النزاع، وما زلنا لا نرى أي تقدم كبير أو تحرك نحو نهايته أو حل سلمي له.