يتحملون ما لا يمكن لعقل أن يتصوره: عمال الرعاية الصحية في غزة يقارعون التأثيرات الصحية النفسية لحرب لا تعرف الهوادة

Gaza
تمرير
1 مايو 2024
الدول ذات الصلة
الأراضي الفلسطينية المحتلة
شارك
طباعة:

مرّ أكثر من ستة أشهر على حرب شعواء اضطرّ خلالها عمال الرعاية الصحية في غزة إلى مواجهة تحدياتٍ غير مسبوقة لتوفير المساعدات الطبية للآلاف من الناس، فيما يحاولون البقاء على قيد الحياة والتعاطي مع الآثار التي تخلفها هذه الحرب عليهم شخصياً. وأشار طاقم الصحة النفسية في منظمة أطباء بلا حدود بأن تأثيرات الحرب في مثل هذه الظروف الشديدة ستترك ندباً تدوم لسنين.

وقال بعض عمال الرعاية الصحية في قطاع غزة التابع للأراضي الفلسطينية المحتلة بأنهم يعيشون في حالةٍ دائمة من الخوف والتوتر والقلق وهم يواصلون علاج المرضى. ونوّهوا إلى أنهم يستقبلون بشكل متكرر أعداداً كبيرة من الضحايا الذين يعاني بعضهم من سحق الأطراف وحروق ناجمة عن الانفجارات، كما اضطروا لبتر أطراف المرضى دون ما يكفي من مسكنات الألم وأدوية التخدير. وقد أدانوا النقص المدمر الذي يطال الإمدادات الطبية التي لا بد منها لإنقاذ حياة الناس والناجم عن الحصار التام الذي فرضته إسرائيل على غزة خلال الأشهر الأولى من الحرب. هذا وكانوا قد فروا من المستشفيات التي أخلتها إسرائيل قسراً أو هاجمتها قواتها المسلحة، واضطروا إلى اتخاذ قرارات لا تعقل حين تركوا مرضاهم خلفهم كي ينجوا بحياتهم.


الطاقم الطبي يتحمل الأعباء في زمن الحرب

أشارت د. أودري مكماهون، وهي طبيبة نفسية تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود وعادت مؤخراً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى أن الطاقم الطبي في غزة يعمل تحت ضغوط نفسية بالغة الشدة.

وقالت: "اضطر الطاقم الطبي في كثير من الأحيان إلى المغادرة وترك مرضاهم بسبب القصف أو غياب الأمن. ويتقاسم كثيرٌ منهم مشاعر الذنب التي تتملكهم لعدم قدرتهم على أن يفعلوا المزيد. كما يأتي هذا الذنب في أحيانٍ أخرى نتيجة اتخاذهم قراراً بحماية أسرهم أولاً عوضاً عن الذهاب إلى المستشفى لمعالجة المرضى".

ثمة نحو 300 فلسطيني من أفراد طاقم أطباء بلا حدود في غزة بينهم الدكتورة ربا سليمان التي تعمل في مستشفى رفح الإندونيسي الميداني. وقد نزحت من بيتها حيث تعيش في ملجأ في رفح، جنوب غزة، برفقة زوجها وطفليهما.

وأوضحت د. سليمان قائلة: "ثمة ضجيج مستمر بسبب المسيّرات التي لا تتركنا إطلاقاً، حتى أن النوم يمسي صعباً في بعض الأحيان. يحدوني التزامٌ أخلاقي بمساعدة الناس حولي كما أنني ملتزمة بالذود عن أطفالي".

وأضافت: "نحن على قيد الحياة لكننا لسنا على ما يرام. إننا متعبون، وقد طال الدمار كل شيء هنا".

يواجه عمال الرعاية الصحية في غزة المعاناة ذاتها التي يعيشها 2.2 مليون شخص في هذا القطاع المغلق. فقد خسر هؤلاء الأطباء والممرضون والمسعفون بيوتهم، حيث يعيش بعضهم في خيام، كما قتل كثيرٌ من أصدقائهم وأفراد عائلاتهم.

قال طبيب فلسطيني آخر يعمل مع أطباء بلا حدود: "لا يتعلق الأمر فقط بالبيت في حد ذاته [الذي دُمّر في مدينة غزة]، إنما بكل الأشياء الصغيرة التي تجعل منك ما أنت عليه. فنجاني المفضل، صور أمي، أحذيتي التي أحبها".

 

الخسائر النفسية والكلفة الإنسانية

تؤدي شدة الصدمات وطول مدة التعرض لها إلى تحطيم الحالة النفسية لبعض الفلسطينيين في غزة، ومنهم عاملون في مجال الرعاية الصحية يأتون إلى العمل كي لا يفكروا بالحرب على حدّ قولهم. لكنهم يخافون من أن ما يحدث لمرضاهم أمام أعينهم سيحدث لهم أو لأحبابهم.

 قالت مدير الأنشطة الصحية النفسية في أطباء بلا حدود في غزة جيزيلا سيلفا غونزاليز: "يواصل العاملون الطبيون عملهم رغم حالتهم العاطفية ومخاوفهم المستمرة حيال سلامة وأمن عائلاتهم. ويزيد هذا من التوتر في العمل والذي بلغ أساساً مستوى مرتفعاً جداً في ظل هذا السياق. إذ يمكن لحالة أي مريض أن تكون سبباً يؤثر عاطفياً على عمال الرعاية الصحية".

وأشار طاقم الصحة النفسية التابع لأطباء بلا حدود في غزة إلى أنهم يرون أعراضاً على الطاقم الطبي مرتبطة بهذا المستوى من التوتر النفسي والإرهاق المستمرين. إذ يعاني الطاقم من القلق والأرق والاكتئاب والأفكار المتطفلة والتهرّب العاطفي والكوابيس، وهي عوامل يمكن أن تزيد من مخاطر المشاكل الصحية النفسية.

وتسعى أطباء بلا حدود إلى الإسراع في توفير الرعاية الصحية النفسية للطاقم الطبي، رغم النواقص الكبيرة التي يعاني منها هذا الدعم. وأشار مدير أنشطة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود في غزة دافيد موساندرو بأن مقاربة دعم الصحة النفسية للعاملين الطبيين تحتلف كثيراً عن تلك المتبعة لدعم المرضى، لأن الطاقم الطبي أكثر وعياً بتأثير عملهم عليهم.

وقال موساندرو: "نقدم لطاقمنا أنشطة من نوع مختلف وترتكز أكثر على تجربتهم. فهذا التدخل النفسي يسمح للمرء بالتعتبر لزميله عما يمرّ به. نحاول أن نقدم لهم خدمة أكثر تخصصاً عن طريق التثقيف النفسي".

 

الهجوم الوشيك على رفح يفاقم التوتر

يعتبر الأمان عنصراً أساسياً مطلوباً لتوفير الدعم النفسي والعلاج، لكن في ظل بيئة لا توفر الأمان حتى لمن يقدم الرعاية، يبدو مستحيلاً تعزيز قدرة الأشخاص على التحمل وبناء آليات التكيف لديهم. فلا أحد في مأمن ولا مكان آمن في غزة. إذ تشير بيانات السلطات الصحية المحلية إلى مقتل أكثر من 34,000 شخص منهم 499 من عمال الرعاية الصحية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، علماً أن بينهم خمسة من زملائنا في أطباء بلا حدود.

وفي هذا السياق قالت أمبارو فياسميل، وهي مرشدة نفسية عملت مع أطباء بلا حدود في غزة خلال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار: "عندما نقول أن لا مكان آمن في غزة اليوم فإننا لا نتحدث فقط عن القصف. إذ لا مكان آمن حتى في عقول الناس الذين يعيشون في حالة من الاستنفار الدائم. ليس في وسعهم النوم وهم يفكرون بأن الموت قد يباغتهم في أية لحظة، فإن غفوا لن يكونوا قادرين على التصرف بسرعة والهرب، أو حماية أطفالهم".

أضافت فياسميل بأن التوقعات بهجوم إسرائيلي وشيك على رفح تؤرق وتوتر عمال الرعاية الصحية والمدنيين على حد سواء، علماً أن عدد سكان رفح اليوم يقدر بنحو 1.5 مليون شخص يعيشون في مساحة مزدحمة وفي ظروف محفوفة بالمخاطر.

وشرحت فياسميل حالة أحد زملائنا حين سمع تأكيداً بالهجوم على رفح، فقالت: "وجدت ذات مرة زميلاً لي على الدرج، وهو مرشد نفسي يكون في العادة مفعماً بالنشاط والحيوية، لكنه كان جالساً وقد طأطأ رأسه بين ركبتيه. كان يحبس دموعه حين أخبرني كم كان منهكاً. سألني عما يسعه أن يفعله وأين يمكنه أن يذهب ومتى ستحط هذه الحرب أوزارها، لكن لم يكن لدي إجابات على أسئلته".

يشار إلى أن أطباء بلا حدود تكرر دعوتها إلى وقف إطلاق نار فوري ودائم للحؤول دون وقوع عدد أكبر من الوفيات والحد من الدمار الذي لحق بحياة الناس في غزة.