تمرير

لغز الجزيرة المغمورة

26 يوليو 2020
تدوينة
الدول ذات الصلة
جنوب السودان
شارك
طباعة:

اللغز

لديك عنزة وذئب وحبة ملفوف، وأنت في جزيرة صحراوية وسط بحيرة على وشك أن تغمرها الماء.

وعليك أن تأخذ جميع أولئك الثلاثة إلى الشاطئ البعيد لتنجوا من الطوفان وتكملوا المهمة. لكن قاربك صغير (جداً) وغير ثابت ولا يمكنك إلا أن تأخذ واحداً فقط في المرة الواحدة.

الذئب والعنزة جائعان، وإذا أخذت الذئب أولاً، ستأكل العنزة حبة الملفوف. وإذا أخذت حبة الملفوف سيأكل الذئب العنزة.

وإذا ظننت أنك تغلبت على اللغز وأخذت العنزة إلى الضفة الأخرى أولاً، تاركاً حبة الملفوف في أمان مع الذئب، ستستنتج أنك فقط أخرت المشكلة وستواجه المعضلة ذاتها على الضفة الأخرى..

لغز عقلي مزعج بعض الشيء ويواجه معظم الناس؛ وإن مهارتي في هذه الأمور محدودة وصبري عليها أكثر محدودية. وكثيراً ما يفوتني "الخيار الثالث" الواضح (بعد أن يتم الكشف عنه) والذي يحل اللغز الذي يبدو مستعصٍ عن الحل.

مع ذلك، وبالرغم من نقص مهارتي في مثل هذه السيناريوهات المجردة، وجدت أن الحياة في الميدان تتضمن معضلات مشابهة كل يوم، لكنها ذات عواقب حقيقية.

سيناريو الحياة الواقعية

هناك فتاة صغيرة كانت في عيادتنا لعدة أيام ومصابة بالسل، ووضعها يتدهور بسرعة.

إذا كان لديها فرصة في التعافي فهي تحتاج إلى رعاية طبية أكثر تطوراً تتوفر فقط في عيادة أطباء بلا حدود في بنتيو، في أقصى الشمال من المكان الذي نحن فيه بجنوب السودان.

المهمة "البسيطة" ظاهرياً بتوفير الرعاية التي تحتاجها الفتاة باتت أكثر تعقيداً بسبب الظروف الصعبة المعتادة في مشاريع أطباء بلا حدود:

  • عيادتنا مبتدئة ومواردها محدودة في علاج الحالات المعقدة.
  • وبسبب انعدام الأمان تعتبر الطرق خطرة ويتم نقل جميع المرضى إلى بنتيو عبر الطائرة برحلة مدتها 20 دقيقة.
  • هذا هو الفصل الماطر والمطر يهطل منذ أيام
  • جميع الإمدادات تُجلب إلى المشروع مرتين أسبوعين عبر طائرة خفيفة. مع ذلك فإن الأمطار الأخيرة قد جعلت مهبط المطار غير قابل للاستخدام، وألغت عدداً من الرحلات وتركت المشروع بدون الأساسيات اللازمة كالأغذية الطازجة.
  • تحتاج الفتاة الصغيرة علاجاً منتظماً بالأكسجين ووضعها يتدهور بسرعة عندما يُنزع عنها الأكسجين.
  • لدى المشروع مكثِّفَي أكسجين فقط يعملان بالكهرباء، ولا توجد لا في الطائرة الخفيفة التي ستنقلها إلى العيادة ولا المركبة التي ستقلها إلى مهبط المطار الطاقة الكهربائية التي تشغِّل المكثفات.

الفريق

بوصفي المسؤول اللوجستي للمشروع، فمن ضمن عملي أن أرتب حدوث عملية النقل هذه، مع الأخذ في الاعتبار ليس فقط التعليمات الطبية لكن أيضاً القيود البيئية والمخاوف الأمنية كذلك.

وكما قلت في مدونة سابقة، تلقيت نصيحة جيدة عندما بدأت العمل مع أطباء بلا حدود وهي أن "الأمر لا يتطلب عبقرية لتحديد ما ليس لدينا. ويكمن التحدي في معرفة ما يجب فعله فيما لدينا".

أحد الأشياء التي جذبتني أصلاً إلى المنظمة هي أن أطباء بلا حدود لا ترسل الطواقم الدولية إلى المشاريع بدون لزوم، لكنها توظف وتطور الكوادر المحلية المتخصصة عالية المهارة. وهناك يبدأ التخطيط من جهتي.

أذهب إلى ريال، المشرف اللوجستي، وماتشوت، المختص التقني (وهو في الواقع ’متعدد المواهب والحرف‘) وثاك وغابرييل، سائقا المشروع.

ومعاً نبدأ التفكير في بعض الأفكار وتمحيصها..

التحدي

نكتب المهمة والقيود ونجلس ونناقش كيفية نقل المريضة:

  • المريضة بحاجة للسفر إلى بنتيو للحصول على رعاية طبية متقدمة
  • الطرق البرية ليست خياراً
  • قد لا تتمكن الطائرة من الهبوط بسبب الطقس
  • المريضة بحاجة إلى علاج مستمر بالأكسجين
  • لا يمكننا نحن تغذية مكثفات الأكسجين بالطاقة خلال الرحلة

الخيار الثالث

الحيلة اللازمة لحل لغز الجزيرة المغمورة هي ألا تكمل السيناريو ضمن المخطط الغامض المقدَّم، بل بالتفكير بطريقة غير تقليدية وإيجاد "خيار ثالث" غير ظاهر: حل المشكلة بدون كسر القواعد.

وبالعودة إلى الميدان بعد الكثير من التخطيط والنقاش، قمنا أنا والفريق بتحديد "الخيار الثالث" الخاص بنا واتفقنا على خطة هشة:

  • ركّبنا أحد المكثفات التي تعمل بالكهرباء على مصدر طاقة محمول كي تتمكن المريضة من السفر إلى مهبط الطائرات باللاند كروزر
  • وأجرينا طلبية طارئة على مكثف أكسجين يعمل بالبطارية سيصل (مشحوناً بالكامل) على الطائرة التي ستُستخدم بالتالي لنقل المريضة إلى بنتيو

الاستعدادت

بالطبع، لا شيء سهل في الميدان – فالطفلة ليست هي المريض الوحيد في عيادتنا ولا يمكننا تخصيص البطاريات المحدودة أو المحولات إذ أنها لازمة لتشغيل الأنشطة الأخرى، بما فيها قسم الأمومة المشغول على الدوام.

power_bank.jpg
مخزِّن طاقة كان يوفر طاقة كهربائية محدودة للمكتب وقسم الأمومة والبراد الذي كان يحفظ الأدوية آمنة في المنطقة التي تصل فيها درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية. وهناك نظام آخر يغذي غرفة الطوارئ وقسم الفرز والصيدلية.

لتأمين هذا، تبرع ريال بمعداته التي كانت تزود الطاقة لمسكن أسرته – ولم يبق بدون الإضاءة الأساسية التي يحتاجها فحسب، بل عرَّض مستقبل خططه التجارية للخطر، حيث كان ينوي استخدام المعدات لتغذية مقهى صغير يخطط لافتتاحه حالما عاد السلام والاستقرار إلى المنطقة.

كان فعله هذا بالتحديد فعلاً كريماً إذ كان يعرف تماماً أننا لم نكن نضمن أن المعدات ستعود، عدا عن الحال التي ستعود بها إن عادت.

الأيام القليلة التالية مرت بصعوبة. استمر المطر بشكل متقطع ما جعل المدرج طرياً. كنا أنا وثاك نقود السيارة إلى المهبط بانتظام لتفقد الأوضاع، متمنين أن يجف، وكنا نخشى الأسوأ.

ومع وجود مصدر طاقة الآن، بدأ ريال وماتشوت توصيل المكثف بينما يتدرب ثاك وغابرييل على عملية النقل لضمان القيام بها بشكل آمن.

الانتظار

خلال بضعة أيام ستأتي الطائرة.

وإن تم كل شيء على ما يرام، فلن يتم نقل المريضة فقط كي تتمكن من الحصول على العلاج البسيط والمنقذ للحياة في آن واحد الذي تحتاجه بشدة، لكننا سنحصل أيضاً على إمدادات ضرورية من الأدوية ومعدات لوجستية وأغذية طازجة!

الأيام القليلة التالية مرت بصعوبة. استمر المطر بشكل متقطع ما جعل المدرج طرياً.

كنا أنا وثاك نقود السيارة إلى المهبط بانتظام لتفقد الأوضاع، متمنين أن يجف، وكنا نخشى الأسوأ.

ومع اقتراب ليلة الإثنين، كان الطقس في ذلك اليوم دافئاً على غير العادة. وإذا لم يهطل المطر خلال الليل، فقد نتمكن من الهبوط بالطائرة وإتمام النقل!

ذهبت إلى السرير مع بريق أمل في ذهني المتعب.

حلول الصباح

استيقظت باكراً على صوت المطر الخافت يسقط فوق خيمتي.

فزعت وهرعت إلى الخارج ووجدت الأرض مبتلة بالماء. مع أن المطر كان خفيفاً حينها، فلا بد أنها كانت تمطر طوال الليل.

أوقفنا المركبة في بركة الماء التي كانت مهبطاً ونزلت منها وكان الماء يصل إلى رباط حذائي. وأجريت الاتصال.

وكنوع من الإنكار قدنا السيارة أنا وثاك إلى المهبط بأسرع وأأمن ما يمكن، لكن الرحلة التي تستغرق 7 دقائق استغرقتنا نحو 40 دقيقة بسبب وعورة الطريق، وتجمعات الماء عليه هنا وهناك.

the_road_to_the_airstrip.jpg
الطريق إلى مهبط الطائرات

بالرغم من أن المستنقع الذي كان طريقاً يوماً ما يقدم تحذيراً جيداً عن الظروف التي يمكننا توقعها على المدرج،فقد كنت قلقاً جداً بينما كنا نعبر الأحراش الأخيرة.

رويداً كان المدرج يظهر أمامنا.

أوقفنا المركبة في بركة الماء التي كانت مهبطاً ونزلتُ منها وكان الماء يصل إلى رباط حذائي. وأجريت الاتصال.

"ألغِ الرحلة"

الاتصال

كان هذا أحد أصعب الاتصالات التي أجريتها في حياتي.

كنت أعرف أن العمل مع أطباء بلا حدود سيكون صعباً وأنني سأكون على اتصال قريب بالموت، لكني لم أتوقع أنه سيكون أنا، المختص اللوجستي والعنصر غير الطبي الوحيد في المشروع هو الذي سيتخذ قرار الحياة أو الموت.

الإمدادات التي كنا نحتاجها بشدة وصلت، ووصل طعامنا الطازج، لكنني لم أستطع الفرح بهذا الانتصار..

تم وضع موعد جديد للرحلة وهبطت في اليوم التالي بصعوبة، حيث انزلقت قليلاً على المدرج ونثرت الطين على الأطراف.

خرج أحد الطيارين وهو يرتجف غير قادر على نطق جملة كاملة، بينما كان الآخرون يضحكون على أن الجو الجاف نسبياً اليوم كان صعباً على الهبوط بالطائرة.

الإمدادات التي كنا نحتاجها بشدة وصلت، ووصل طعامنا الطازج، لكنني لم أستطع الفرح بهذا الانتصار..

الليلة السابقة، وبالرغم من جهود الفريق الطبي، توفيت مريضتنا الشابة بعد 17 يوماً في رعايتنا المتفانية.

التأمل

بدأت أكتب هذه المدونة في اليوم الذي أبلغت فيه الطاقم الطبي بخطة النقل. علّقت القابلة تعليقاً عابراً أن الأمر كان "كواحدة من تلك المشاكل القيادية".

مقارنة المشكلة باللغز بدت لي نقطة بداية جيدة، بالأخص إذا قارناها بما يبدو أنه "تحدٍ كلاسيكي خاص بأطباء بلا حدود" حيث ينتصر فريق متفائل على ظروف مستحيلة.

بعد وفاة الطفلة، لم أشعر أنه كان من الملائم مواصلة كتابة ما بدا أشبه بمدونة وقحة. ولمدة طويلة أبقيت على مسودة غير مكتملة اجتمع عليها الغبار في حاسبي المحمول – غير قادر على وضعها في سلة المهملات.

بينما لدي نوع من القلق أن النبرة التي اخترتها هنا قد تبدو غير محترِمة، أعتقد أن قلقي حيال حذف هذا المنشور جاء من الاعتقاد بأن عدم إخبار هذه القصة سيكون عدم احترام أكبر، بل قد يرقى لنسيان هذه الفتاة الصغيرة فقط لأنها توفيت، وتذكُّر الأحياء فقط.

مريضتنا

في آخر أيامها كانت هذه الفتاة الصغيرة سعيدة وترعاها أمها ويحبها جميع أفراد الطاقم.

ضحكَت كثيراً إذ أنها لم تركب سيارة من قبل، وكانت متحمسة للغاية لصعودة طائرة. وقد وجدت خوف أمها من صعود الطائرة أمراً مسلياً.

كانت تضحك عندما أتدرب على التحدث بلغة النوير معها وكنا أنا والفريق الطبي نشرح عملية النقل لها ولأمها.

كان يوم ميلادي قبل ذلك بوقت غير بعيد وعندما توقفت عند الجناح الذي هي فيه لتفقد الكهرباء، أعطيتها بعض البالونات الاحتفالية التي وجدها زملائي من أجلي. كانت تتمتع باللعب بهذه البالونات كثيراً. وعندما نفدت البالونات مني أعطيتها قفازات مطاطية منفوخة، جعلتها تضحك كثيراً.

كتبت هذا المنشور عندما كانت على قيد الحياة وكنا جميعاً نحاول ما بوسعنا لإجراء النقل. وبعد تأملي أكثر من مرة في مدى ملائمة هذه المدونة، توصلت في النهاية إلى أن عدم كتابتها أو تغيير النبرة لأنها ماتت سيكون تركيزاً على موتها أكثر من حياتها.

من أرشيف الفيديوهات: