ضمن جهود التحضير لإطلاق أنشطة أطباء بلا حدود الطبية، ذهبت الشهر الماضي إلى نحو عشرين قرية في منطقة أمبواساري. وأكاد لا أجد كلمات لوصف ما رأيت. أخبرني الناس عن الغيوم وعن الأمطار التي لم تعد تهطل، وكيف انحدرت حياة الناس في السنوات الثلاث الأخيرة بشكل مطَّرد نحو الأسوأ.
ثلاث سنوات من القحط المتواصل في صحارى جنوب مدغشقر قد ضغطت الناس إلى درجة الانهيار، إذ يعيش معظمهم على الزراعة ومنتجات المواشي، كما أوشكت بقرى بأكملها على الموت.
والقصة ذاتها تتكرر في القرية تِلْوَ الأخرى. نفد الطعام وجفت الأنهار ويبست الحقول وعَجِفَت أبقار الدرباني ولم يعد الرجال يقوون على العمل وانتشر الخوف من اللصوص الذين يسلبون القليل الذي تبقَّى. كانت هناك بضعة أراضٍ مجاورة لمجرى ماء هزيل تبدي علامات لاحتمال إمكان زراعة شيء ما، لكن فرص نجاحها بأن تنتج محصولاً شبه معدومة. فإذا لم يسبق إلى أكلها الجراد الصحراوي واليرقات، فإن الشمس الحارقة ستسرع للإجهاز على الفسائل الناشئة المنكمشة.
لقد أتت السنوات الثلاث على كل ما لدى الناس؛ فنتيجة لجفاف حقولهم، اضطروا لبيع أبقارهم (الدرباني) ودجاجاتهم ومعداتهم وحتى أدوات المطابخ، ليشتروا بها الأغذية المتزايدة الأثمان من أسواق يستغرقهم الوصول إليها ساعات من السير على الأقدام من منازلهم. غالب ما يأكلونه هو ما يتيسر لهم
جمعه من أوراق الشجر وجذور النباتات والفواكه التي لا تكاد تؤكل، ويقولون أنهم كثيراً ما يمرضون لأنها سامة. وفي القرى يموت الصغار والكبار من الجوع. أما المدارس فهي خاوية لأن المعلمين قد هجروها. لا مال يأتي ولا رواتب ولا طعام. ولم يتبقى إلا انعدام الأمن والخطر المستمر من العصابات التي تسرق أي شيء تقع عليها أيديها. وقد أخبرني غير شخص من سكان القرى أنهم باتوا يتركون بيوتهم في الليل ليناموا في الأحراش الصغيرة المجاورة، خشية على أنفسهم.
وفي التلال العطشى شاهدت فتياناً يمشون لساعات وهم يجرُّون أكياساً قد يبلغ وزنها 10 كيلوغرامات. كانوا يحملون طعاماً من موقع توزيع برنامج الغذاء العالمي إلى قراهم حيث ينتظرهم أفراد أسرهم الذين لم تعد لديهم القدرة على المشي لتلك المسافة الطويلة. وهناك خطر غير قليل بأن يتعرضوا للسرقة أثناء الطريق. ويفضل بعض الفتيان أن يبيعوا مقابل مبلغ زهيد بعض البضاعة التي يثقل عليهم حملها. ويحدد برنامج الغذاء العالمي ما يوزعه من أرز وحبوب وزيت بنصف حصة للشخص، ولا تحصل جميع القرى على تلك الحصص. ولا أعرف كيف يستطيع هؤلاء الناس العيش.
في إحدى القرى التي زرتها كان جميع من يسكنها من المرضى وكبار السن والأطفال؛ وكان الجميع بوضع مزرٍ. أما بقية سكان القرية فقد رحلوا، ومن لم يقوَ على الذهاب معهم اضطر للبقاء. والمنازل الصغيرة في القرى المجاورة قد هُجرت أيضاً، لذا فما عليهم سوى الانتظار. أخبرونا أنهم منذ انقطاع الأمطار اضطروا لبيع ملابسهم ولم يبق لديهم سوى قمصان بثقوب واسعة. أما اللصوص فيسرقون أي شيء لم يبعه أصحابه: الدجاج، البط، الأدوات. لا يجد الناس ما يغسلون به أنفسهم، أما للشرب فعليهم أن يتدبروا أمرهم من ماء النهر.
خلال عملي في مجال الإغاثة الإنسانية طيلة نحو ثلاثين عاماً، لم أشهد مثل هذه الأوضاع الصعبة إلا نادراً. هي تجارب ومشاهدات تغير حياتك، وتلهمك مرة بعد أخرى لتقدم المساعدة لأناس كثيراً ما يُتركون وحدهم لمواجهة مصيرهم.
إقرأ المزيد:
أطباء بلا حدود تدعو إلى تعزيز عاجل وشامل للمساعدات الغذائية تفادياً لحدوث مجاعة في جنوب مدغشقر