تمرير

العراق: أتوا متأخرين وهم على شفير الموت

16 فبراير 2021
قصة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

في نهاية يوليو/تموز 2020، بدأت بغداد تشهد ظاهرة غير مألوفة. لاحظ الأطباء والممرضون المتصببون عرقًا في صيف العراق أنه في حين امتلأت وحدات العناية المركزة المخصّصة لمرضى كوفيد-19 على نحو لم يسبق له مثيل، بدأت أجنحة الحالات الأقل خطورة تخلو شيئًا فشيئًا من المرضى. فيشرح منسق مشروع أطباء بلا حدود في بغداد عمر عبيد قائلاً، "تجاوزت المستشفيات في بغداد طاقتها الاستيعابية وشعر الناس بالخوف الشديد، فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى الرعاية المنزلية. توقف الناس عن الذهاب إلى المستشفيات، ولم يقصدوها متأخرين وهم على شفير الموت".

اعتادت المستشفيات في بغداد أن تتعامل مع التدفقات المفاجئة من جرحى التفجيرات التي أعقبت الغزو الأميركي واستمرت طوال سنوات النزاع التالية. ومع بدء انتشار كوفيد-19 في شوارع المدينة في الصيف الماضي، سرعان ما ظهرت نقاط الضعف التي تكتنف النظام الصحي المنهك. وخير برهان على ذلك ما حصل للسيدة نعمت في نوفمبر/تشرين الثاني بعد أن أصابها المرض، فتقول ابنتها هبة، "لم نتمكن من إجراء فحوصات لها بعد محاولات عديدة". وتتابع قائلةً، "خضعت بعدئذٍ للتصوير المقطعي ورأينا أن رئتيها بيضاوان بالكامل ومتضررتان بشدة من كوفيد-19. اعتقدت أنني قادرة على التعامل مع مرضها في المنزل لكوني صيدلانية، واتّخذت هذا القرار لأن المستشفى كان الخيار الأخير المطروح بالنسبة لي". غير أن حالة نعمت تدهورت كثيرًا في النهاية، ما دفع بابنتها هبة إلى نقلها إلى مستشفى عام. ووفقًا لهبة، كان كل يوم طبيب مختلف يعاين والدتها ويكتب لها وصفة طبية مختلفة. كما شرحت أنه في هذا المستشفى، وُضع كل 20 مريضٍ تقريبًا تحت رعاية ممرضَين أو ثلاثة فقط، وهي مهمة شاقة بالنسبة لهم إن لم تكن مستحيلة على حدّ قولها.

عملت طواقم أطباء بلا حدود طوال الصيف على توفير الدعم في وحدة الرعاية التنفسية في مستشفى الكندي. شهدت هذه الطواقم عن كثب الاحتياجات المتزايدة هناك وكيف عجز المستشفى عن التعامل مع تدفق مرضى كوفيد-19 الذين احتاجوا إلى متابعة وثيقة ومتسقة. فتقول رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في العراق جوينولا فرانسوا، "كان من الطبيعي والمتوقع أن نرى العديد من الموظفين خائفين من كوفيد-19 ومتردّدين في العمل. ولكن ما طرح مشكلةً فعلاً هو غياب كبار الأطباء غالبًا، تاركين المرضى في عهدة الأطباء المبتدئين غير المستعدين في الكثير من الأوقات لاتّخاذ قرارات بدون هؤلاء الأطباء المشرفين عليهم".

من هذا المنطلق، اتفقت منظّمة أطباء بلا حدود مع السلطات الصحية على إنشاء جناح خاص بها مخصّص لعلاج مرضى كوفيد-19 داخل مستشفى الكندي. وافتتح هذا الجناح في مرفقٍ بُني لهذا الغرض في أيلول/سبتمبر بطاقة استيعابية بلغت أولاً 24 سريرًا، ثم توسّعت لاحقًا إلى 36 سريرًا.

في وحدة كوفيد-19، يتجوّل الأطباء والممرضون والموظفون الآخرون وهم يرتدون الأقنعة والأردية الزرقاء، ويقيسون العلامات الحيوية، ويعدلون إعدادات أجهزة التنفس الصناعي، ويشرحون لأفراد الأسرة عن حالة المريض والعلاجات التي يتم إعطاؤها له. ويُردف منسق المشروع عبيد موضحاً، "شهدنا سابقًا في بعض الموافق على ممارسة أهالي المرضى العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية عند وفاة أحد أفراد الأسرة. حاولنا تجنب ردود الفعل العنيفة هذه من خلال زيادة تواصلنا مع الأسر، ولحسن الحظ لم نواجه أي مشاكل مع أهالي المرضى في جناحنا".

يعتبر هذا المستوى من التواصل مهم للغاية في هذه الوحدة التي عالجت العديد من المرضى الذين اشتدت حالتهم، بحيث أظهر عدد الوفيات مدى خطورة الحالات التي تم استقبالها: فمن سبتمبر/أيلول 2020 ولغاية الأسبوع الأول من فبراير/شباط، أُدخل إلى المستشفى 168 شخصًا، وشهد المركز 86 حالة وفاة. وتقول مسؤولة العناية المركزة في أطباء بلا حدود الدكتورة أوريلي غودار التي عملت في الكندي في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، "من الناحية الطبية، كان الوضع هنا صعبًا للغاية. بما أن المرضى تردّدوا في المجيء إلى المستشفى، انتهى بهم المطاف بالوصول متأخرين جدًا وهم يعانون من مستويات منخفضة للغاية من الأكسجين والعديد من المضاعفات الأخرى. عندما بدأنا عملنا، بلغ معدل الوفيات للمرضى ذوي الحالات الحرجة 100 في المئة تقريبًا، وعلى الرغم من أننا نجحنا بتخفيضه، إلا أنه بقي مرتفعًا للغاية. لكن العمل مع الزملاء العراقيين كان مذهلاً. طوّرنا بسرعة طرقًا جديدة للعمل معًا ونجحنا في تسريح بعض المرضى الذين لكانوا اليوم في عداد الموتى اليوم لو بقي الوضع السابق على حاله".

من جهته، يستعيد الممرض محمود فرج المنحدر من منطقة بالقرب من الموصل والذي يعمل مع أطباء بلا حدود في بغداد بعض الذكريات قائلاً، "في الأيام الأولى من عملي، انتابني بعض التردّد. كنت أفكّر بأنني سأقود لمدة خمس أو ست ساعات للعمل مع مرضى كوفيد-19 بينما كان الناس يفرون من هذا المرض الخطير الجديد. ولكن بعد أن عملت مع المرضى ورأيت كيف تغيرت ظروفهم والسعادة التي غمرتهم عندما شفيوا، شعرت أنني أقدم خدمة رائعة".

ثمة تناقض صارخ بين العالم داخل الجناح، حيث يصارع الكثير من المرضى من أجل التنفس، أو يكونون فاقدين للوعي وتساعدهم الآلات على التنفس، والعالم الخارجي حيث تستمر الحياة وكأن شيئًا لم يكن وكأن كوفيد-19 لم يتسبّب بخسائر فادحة في العراق. فارتداء الكمامة محدود وأبواب الشركات والمحال مفتوحة. ذلك لأنه ليس أمام العديد من العراقيين خيار سوى الاستمرار في العمل كالمعتاد بالرغم من الجائحة بما أن البلد واقع في براثن أزمة اقتصادية ولا وجود لأي دعم من الدولة. ولسوء الحظ، لا يرتدي العديد من الأشخاص الكمامات أيضًا في الأماكن العامة، رغم أن الأمر إلزامي.

وعلى الرغم من انخفاض عدد الحالات والمرضى الذين يدخلون إلى جناحنا في ديسمبر/كانون الأول وبداية يناير/كانون الثاني، غير أن الأسابيع القليلة الأولى من شهر فبراير/شباط شهدت ارتفاعًا آخر مقلق في عدد الحالات في البلاد، وزيادة ملحوظة في الحالات المُدخلة إلى الجناح. فتقول رئيسة البعثة فرانسوا، "نحن نراقب الوضع عن كثب لأن هذه الزيادة تثير قلقنا فعلاً. نحن على استعداد لمواصلة دعم السلطات الصحية العراقية في حال اكتظاظ المستشفيات مرة أخرى".

تؤكّد فرانسوا أن ارتداء الكمامة وغسل اليدين وممارسة التباعد الجسدي تؤدي جميعها دورًا كبيرًا في خفض حدة الموجة الثانية المحتملة. "يمكن أن تساعد هذه الممارسات في الحفاظ على سلامة الناس وأن تسهم في تجنّب اكتظاظ المستشفيات مرة أخرى بسرعة".