أحْدثَ وباء كوفيد-19 تأثيراً عميقاً في المجتمع الإيزيدي في قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى شمال غرب العراق. فعلى الرغم من عدم تسجيل العديد من الحالات في المنطقة، إلا أن الإجراءات التقييدية المُعتمدة في العراق (كحال العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم) للحد من انتشار الفيروس تُثقل كاهل الحياة اليومية وسلامة المجتمع الأكثر حاجة في هذه المنطقة.
في عام 2014، اجتاحت جماعة الدولة الإسلامية قضاء سنجار وأدى ذلك لما يعتبره الإيزيديون على أنه حملة "إبادة جماعية" ضدهم. حيث ذبح مُقاتلو جماعة الدولة الإسلامية آلاف الرجال واختطفوا نحو ستة آلاف امرأة وطفل، لينتهي بهم المطاف إما ببيعهم للعبودية أو إجبارهم على الاستعباد الجنسي. وبعد مرور أكثر من ست سنوات على بداية النزاع وبعد استعادة المدينة من جماعة الدولة الإسلامية في عام 2015، لا تزال العديد من العائلات تعيش مع ندوب نفسية وجسدية جراء ما مروا به من أحداث صعبة، حيث لا يزال البعض يبحثون عن أحبائهم الذين فُقِدوا أو ينعون من ماتوا، ولازال الكثيرون يُكافحون لاستعادة سبل عيشهم.
أدى انتشار كوفيد-19 إلى فرض قيود صارمة على الحركة بين المدن في جميع أنحاء العراق. فَفي سِنجار، أثرت هذه القيود بشكل كبير على الوضع الاقتصادي والحياة اليومية للسكان المحليين، وبالتالي على صحتهم النفسية. فحتى قبل تفشي الوباء، كان معظم سكان سنجار يعيشون تحت خط الفقر، مع انتشار البطالة في المنطقة. وبعد وصول جائحة كوفيد-19، أُجبر حتى الأشخاص الذين كانت لديهم وظائف وأعمال في السابق على البقاء في المنزل، و أصبحوا غير قادرين على العمل وإعالة أسرهم حالياً.
يعمل عايد ناصر مع منظمة أطباء بلا حدود في مستشفى سنوني العام كمشرف مُمرضين منذ عام 2018. هو متزوج ولديه أربعة أطفال ويسكن هو وعائلته في مخيم "جمشكو" للنازحين في محافظة دهوك. إلا أن مكان عمله هو مستشفى سنوني العام الذي يقع في ناحية سنوني في قضاء سنجار. وبسبب القيود المفروضة على الحركة، لم يرَ عايد عائلته منذ خمسة أشهر، فهو غير قادر على السفر من مكان عمله في سنوني إلى المخيم في محافظة دهوك حيث تقطُن عائلته.
وفي حديثه عن الوضع في سنجار، قال عايد: "إن غالبية سكان سنجار هم إما مُزارعون أو عُمال يوميون اعتادوا العمل بشكل مؤقت خارج المدينة لمدة يوم أو يومين في كل مرة. لقد أوقف فيروس كورونا جميع الأعمال التجارية، ولا يمكن للناس السفر خارج المدينة للعمل. كما أن مردود حصاد المزارعين ليس كافياً حتى لتعويض الجهود والتكاليف التي ينفقونها حتى موعد الحصاد، ولا يستطيع التُّجار القدوم من المحافظات الأخرى لشراء المنتجات، وبالتالي تفسد المحاصيل والخضروات في نهاية المطاف. قبل فيروس كورونا، كان دخل الناس قليلاً جداً وقد بات هذا الدخل القليل الآن معدوماً".
وبالنسبة للعديد من الأشخاص، إن فقدان القدرة على تلبية حاجات أُسَرِهِم والكثير من أوقات الفراغ وعدم اليقين بشأن ما قد يؤول إليه المستقبل، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على زيارة أفراد الأسرة والأقارب الذين يعيشون أو نزحوا إلى مناطق أُخرى، يسبب لهم الإحباط والتوتر، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة على صحتهم النفسية وخصوصًا بالنسبة للأشخاص الذين لا يزالون في خضم محاولاتهم للتغلب على التجارب الصادمة التي عانوا منها في الماضي.
تقول مديرة أنشطة الصحة النفسية في منظمة أطباء بلا حدود في سنوني فيبي يونكو: "لقد شهدنا زيادة في العنف الأُسري؛ حيث يجلس الرجال في المنزل دون عمل ويضطرون لقضاء وقت أكثر بكثير مما اعتادوا عليه مع أُسرهم. وبعد تخفيف القيود على الحركة، استقبلنا العديد من النساء اللواتي قُلن إن أزواجهن أصبحوا عدوانيين تجاههن وتجاه أطفالهم. إن السلوك العدواني والغضب تجاه أفراد الأسرة هو وسيلة للتعبير أو للتنفيس عن إحباطاتهم وقلقهم".
وتُضيف يونكو قائلةً: "لاحظنا ارتفاعاً في عدد الأشخاص الذين يُعانون من الاكتئاب في سنجار، ونعتقد أن تقييد الحركة قد لعب دوراً كبيراً في ذلك. فخلال الأشهر القليلة الماضية، استقبلنا العديد من المرضى الذين يعانون من أفكار ومحاولات انتحارية، وهي أعراض شديدة للاكتئاب".
ومع القيود المفروضة على الحركة، يُعدّ الوصول إلى الرعاية الصحية أحد التحديات الكبيرة التي يواجهها سُكان قضاء سنجار. تقول شانا موريس، وهي طبيبة تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في سنوني: "قبل فرض حظر التجول، كان الأشخاص الذين يحتاجون إلى خدمات طبية متخصصة يُحالون إلى المستشفيات في محافظة دهوك في كردستان العراق. أما الآن، فلا يستطيع الناس السفر إلى دهوك وأصبحت الوجهة الوحيدة المتاحة لهم هي مدينة الموصل".
وتضيف: "وللوصول إلى الموصل والحصول على الرعاية الطبية، يجب على سُكان المنطقة السفر بسيارة إسعاف كي يُسمح لهم بعبور نقاط التفتيش. ويستغرق ذلك معدّل أربع ساعات قبل أن يصل المريض إلى مستشفيات الموصل. ولدى العديد من الإيزيديين نوع من القلق حول الذهاب إلى الموصل إما بسبب أحداث عام 2014، أو لأن العديد منهم لا يتحدثون العربية ويصعب عليهم التواصل هُناك".
وبالنسبة للعديد من النساء اللواتي يعِشن في القرى التابعة لقضاء سنجار، فإن مستشفى سنوني العام -حيث توفر منظمة أطباء بلا حدود خدمات الرعاية الطبية الطارئة وخدمات الأمومة والصحة النفسية - هو خيارهن الوحيد للوصول لخدمات الرعاية الصحية. لكن قلة منهن يأتين مؤخراً. حيث لا يُسمح لهن بالمرور عبر نقاط التفتيش للوصول إلى المستشفى.
تقول أديلايد ديبرا، وهي قابلة تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في سنوني: "لقد انخفض عدد الزيارات في العيادات الاستشارية بشكل كبير. لا تأتي النساء من أجل رعاية ما قبل الولادة أو بعدها ومن أجل وسائل تنظيم الأسرة لأنهن لا يستطعن عبور نقاط التفتيش؛ حيث لا تُعتبر حالاتهن طارئة ولا يُسمح لهن بالمرور. وبعد تخفيف بعض القيود المفروضة على الحركة، استقبلنا المزيد من النساء اللواتي حَمِلن بشكل غير مرغوب فيه وأخبرننا أن وسائل وأدوية تنظيم الأسرة قد نفدت منهن".
الخوف من تدهور الأوضاع أمنياً
وعلاوة على كوفيد-19، إن الضربات الجوية الأخيرة في المنطقة والحملات العسكرية المستمرة ضد الجماعات التابعة لحزب العمال الكُردستاني تسبّبت في مزيد من الضغط النفسي ويخشى الناس أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب مرة أخرى.
يقول عايد: "في اليوم الذي قَصَفَت فيه الطائرات المقاتلة جبل سنجار، كنت في سنوني. أصابني دَوي الصاروخ الأول بالرعب. لم أكن أعرف ما الذي يجري. أول ما تبادر إلى ذهني هو أن جماعة الدولة الإسلامية قد عادت إلى سنجار.
لكن بعد إجراء بعض المكالمات الهاتفية علمت بأن ما حدث كان قصفاً تركياً لمجموعات تابعة لحزب العمال الكُردستاني. إن المنزل الذي أُقيم فيه قريب جداً من إحدى قواعدهم، وخوفًا من قصف القاعدة، غادرت المنزل حينها. تجولت في أنحاء سنوني وسمعت صُراخ النساء والأطفال ورأيت أشخاصاً يحملون أطفالهم ويحاولون الابتعاد عن القواعد. وقد توقف الناس عن زيارة المناطق الجبلية تمامًا خوفاً من استهدافهم من قبل الطائرات الحربية."
ومع استمرار وباء كوفيد-19 بإحداث الفوضى في البلاد، فقدَ الكثير من الناس الأمل. يتابع عايد قائلاً: "حتى الآن لم ينس الإيزيديون ما حدث لهم في عام 2014. ولا تزال آثار المذبحة تُهيمن على المنطقة مع العثور على المزيد من المقابر الجماعية. أرى اليأس في وجوه الناس، إذ لا يملك البعض حتى المال الكافي لشراء الطعام وأحياناً نقوم نحن -موظفو المستشفى- بجمع التبرعات فيما بيننا لبعض المرضى. لا يوجد شيء في سنجار، حتى الماء في بعض الأحيان غير مناسب للشرب. كيف سيشعر الناس برأيك عندما لا يملكون شيئًا؟"
أطباء بلا حدود في سنوني
بدأت منظمة أطباء بلا حدود بدعم مستشفى سنوني العام في مجالات الرعاية الصحية الطارئة ورعاية الأمومة في أغسطس/آب 2018، وسرعان ما أدركت المنظمة أن الصحة النفسية كانت حاجة مُلحة لم تتم تلبيتها في المنطقة. منذ ذلك الحين، أضاف الفريق أنشطة الصحة النفسية لتغطية الحاجة في هذا المجال في مستشفى سنوني العام، بالإضافة إلى تقديم جلسات صحة نفسية جماعية وأنشطة صحة نفسية للنازحين في جبل سنجار.
يقدم مشروع منظمة أطباء بلا حدود في سنوني خدمات لأكثر من 90 ألف شخصٍ، كما يقدم الخدمات الصحية لجميع المجتمعات في المنطقة. وفي عام 2019، عالجت منظمة أطباء بلا حدود 14,581 مريضاً في غرفة الطوارئ في المستشفى، كما ساعد الفريق في إجراء 755 عملية ولادة، وقدم 8,702 استشارة رعاية صحية جنسية وإنجابية و1,434 استشارة نفسية.
وإقرأ المزيد على موقعنا الدولي: