تمرير

هذه الحرب ليست حربي

24 يونيو 2019
تدوينة
الدول ذات الصلة
سريلانكا
شارك
طباعة:

قبل عدة سنوات التأم شمل عائلتي من جديد خارج سريلانكا، بعد أن فرقتنا الحرب الأهلية التي كانت تدور رحاها هناك.

أتذكر القلق الذي كنت أعيشه وقد انتقلت إلى بلدٍ جديد. كنت أشاهد الأخبار يومياً آملاً ألّا أرى أحداً من معارفي وقلقاً على سلامة أصدقائي وأقاربي.

حاولت أن أجعل الأمور تبدو عادية أمام أفراد عائلتي الذين يعيشون معي وكنت دائماً أتظاهر بالشجاعة وأحاول أن أبدو وكأنه ليس هناك ما يدعو إلى القلق.

تأثير الحرب

لقد عانى التاميل في سريلانكا وشهدوا الكثير من أعمال العنف الفظيع تُمارَس ضدهم: تفجير مستشفيات وقتل عشرات الآلاف منهم.

في الوقت الذي اجتمعت فيه عائلتي من جديد، كنت قد فقدت معظم أصدقائي وزملائي.

كنت ضائعاً، وكان لديَّ العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات:

كيف يمكن لشعبٍ أن يتحمل كل هذه الفظائع ويعاني كل هذه المعاناة؟

أين المجتمع الدولي؟ ما هي مسؤولياته؟

أتذكر أولئك الأشخاص الأجانب بملابسهم الأنيقة وملامحهم الودودة كيف كانوا يوزعون الطعام والنصائح. وأتذكر هدير سياراتهم ذات الدفع الرباعي وهم يتجولون في المكان. ماذا حلَّ بهم، ولماذا غادروا في الأشهر الستة الأخيرة من النزاعات؟

كانت اللحظة التي وصلت فيها مشاعري إلى ذروتها هي تلك اللحظة قبل ثماني سنوات. كنت مسافراً بالطائرة عندما توجه إليّ رجل كهل من سريلانكا بسؤال بسيط وبنبرةٍ محببة "هل يجلس أحد في هذا المقعد المجاور لك يا أخي الشاب؟"

شعرت بمزيجٍ من المشاعر العارمة تجتاحني هي مزيج من الغضب، والخوف، وأيضاً الكراهية. لماذا؟

كانت تلك هي اللحظة وذلك هو الموقف الذي تعهدت فيه لنفسي أن أنتمي فقط إلى الإنسانية، دون تحيّز إلى عرقٍ أو عقيدةٍ أو طبقة اجتماعية أو دين.

لأنه لم يتحدث إليّ بلغتي الأم. لقد تحدث بلغةٍ سريلانكيةٍ أخرى وهي لغة جعلتني أربط بينه كشخص وبين العنف. وإذا أردت النظر بموضوعية فهذا ما حصل. لم أكن أعرف عن الرجل أيّ شيء آخر. أعتقد أن هذا ما تفعله سنواتٌ من النزاع بالبشر.

جلست هناك يلفني الصمت ورفضت أن أجيبه. لقد كانت تلك أطول أربع ساعاتٍ في حياتي. وحين غادرت الطائرة كنت أعرف أن مشاعري كانت غير عقلانية.

لقد شعرت بمشاعر العنصرية تجاه شخصٍ أراه للمرة الأولى في حياتي، وأقسمت ألا أشعر بذلك مرةً أخرى. هذه ليست الأخلاق التي رباني عليها والداي ولا أريد أن أنظر إلى أيّ إنسانٍ آخر في حياتي بهذه الطريقة.

كانت تلك هي اللحظة وذلك هو الموقف الذي تعهدت فيه لنفسي أن أنتمي فقط إلى الإنسانية، دون تحيّز إلى عرقٍ أو عقيدةٍ أو طبقةٍ اجتماعيةٍ أو دين.

الانضمام إلى أطباء بلا حدود

بعد أن عملت لمدة أربع سنوات مع منظماتٍ أخرى غير حكومية في أفغانستان، ولاحقاً في سوريا ولبنان و العراق، سعيت للحصول على وظيفةٍ في أطباء بلا حدود.

لطالما أردت العمل مع أطباء بلا حدود. بالنسبة لي فإن هذه المنظمة هي خير مثالٍ للحياد والاستقلالية. ولكنها في الوقت نفسه –وهذا مهمٌ جداً بالنسبة لي- تمتلك الجرأة الكافية لتدين أعمال العنف ضد المدنيين.

لقد كان الدافع وراء عملي مع أطباء بلا حدود شخصياً كما كان مهنياً في ذات الوقت. ففي ذلك الوقت كنت ما زلت أشعر بالغبن تجاه أطباء بلا حدود لأنها غادرت منطقة النزاع في سريلانكا ولم تفعل المزيد.

على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة عملت مع أطباء بلا حدود في عدة مهام ميدانية شهدت خلالها العديد من الكوارث الإنسانية.

نستطيع، كجنسٍ بشري، أن نسمو فوق هذه الحدود والحواجز المصطنعة وأن نرحب بالاختلاف بدلاً من جعله عامل فرقةٍ فيما بيننا .

من بين أكثر التجارب التي تأثرت بها كانت المهمة التي عملت بها في كوكس بازار حيث تدفق مئات الآلاف من اللاجئين الروهينغا عبر الحدود إلى بنغلاديش خلال بضعة أشهر فقط.

لقد سرت مع اللاجئين بينما كانوا يشقون طريقهم إلى المخيم، إلى حياتهم الجديدة، ورافقتهم في إحدى أهم اللحظات في حياتهم، حين كانوا فارين من بلادهم و متجهين إلى مستقبلٍ مجهول.

كنت عاجزاً عن الكلام.

دون أن أحاول المقارنة بين المعاناتين لم أستطع إلا أن أفكر بأن هؤلاء هم تماماً كعائلتي قبل سبع سنوات، بينما أنا الآن أحد الأشخاص الأجانب الودودين.

لديّ أمل

بعد كل هذه السنوات من العمل مع المنظمات الإنسانية، أستطيع الآن أن أفهم التحديات التي يواجهونها.

إذا أرادت الحكومات أو المنظمات الأخرى أن تجعل من المستحيل على منظمةٍ غير حكومية أن تعمل باستقلالية، وإذا كان هناك قيودٌ وموانع لا تسمح لتلك المنظمة بأن تبقى حياديةً فعلاً وغير منحازة إلى أيّ طرفٍ من الأطراف، سيصبح هناك علامة استفهامٍ فيما إذا كانت تلك المنظمة غير الحكومية قادرة على العمل بشكلٍ آمنٍ وبفاعلية في تلك الأزمة تحديداً. ما تزال أطباء بلا حدود تكافح بسبب الطريقة التي تعاملت بها مع الأزمة الإنسانية في سريلانكا. وهو أمر متوقع.

إلا أنّ كون أهداف أطباء بلا حدود ومُثلُها العليا تجاه العمل الإنساني لا تتأثر بالسياسات وإنما بعدم الانحياز هو أمرٌ لم يتغير. وأنا أشهد على ذلك وأشعر بالامتنان لكوني جزءاً من هذه المنظمة.

إنّ كون أهداف أطباء بلا حدود ومُثلُها العليا تجاه العمل الإنساني لا تتأثر بالسياسات وإنما بعدم الانحياز هو أمرٌ لم يتغير .

في الوقت الذي تتزايد فيه النزعات القومية الشعبوية في أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وبينما تستمر الحروب الطائفية في الانتشار في أنحاء متفرقة من العالم فإن رسالتي واضحة: لا تكن ذلك الشاب الذي كان يجلس في مقعد الطائرة قبل سنوات.

علينا أن نثق بالانسانية وبالتعاطف بين بني البشر وعلينا أن نحمي هذا العالم، ذلك أنه ضمن هذا العالم يمكننا أن ننهي المعاناة غير الضرورية، وكجنسٍ بشري نستطيع أن نسمو فوق هذه الحدود والحواجز المصطنعة وأن نرحب بالاختلاف بدلاً من جعله عامل فرقةٍ فيما بيننا.

ما زال أمامنا طريق طويل لتحقيق ذلك لكن لديّ أمل بأننا سنصل، وتساهم بعض المبادرات اللطيفة التي تحدث يومياً في تعزيز ذلك الأمل.

بين جميع البشر

" هذه الحرب ليست حربي " هذه الجملة قالها لي شخص أصبح مقرباً مني بعد أن التقينا وعملنا معاً أثناء الأزمة السورية.

بعد مرور 10 سنوات، أستطيع أخيراً أن أقول الشيء نفسه وأشعر بالشعور نفسه كل يوم: هذه الحرب ليست حربي، إنها مسؤولية مشتركة بين جميع البشر.

كلُّ موتٍ يمكن تجنّبه، كلُّ مريضٍ معوزٍ لا يستطيع الحصول على الرعاية الطبية، كلُّ شخصٍ يتم امتهان كرامته الإنسانية في هذه اللحظة من التاريخ حيث وصلنا إلى هذه المراحل من التقدم، كل هذا هو "حربنا المشتركة".