تمرير

حيث أشعر دوماً بأنني مسؤولية عن روحين في الوقت ذاته: الأم وطفلها

10 مارس 2020
قصة
الدول ذات الصلة
اليمن
شارك
طباعة:

المقابلة الأولى مع أمل، 28 سنة، تعمل قابلة في مستشفى الأم والطفل في الحوبان، محافظة تعز. مكان إقامتها سابقاً في مدينة تعز وحالياً في الحوبان

كيف تغيّرت حياتك نتيجةً للحرب؟

"انتقلت إلى منطقة الحوبان كي أعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في عام 2017. كانت الأوصاع متوترة آنذاك في الحوبان، في ظل القصف والضربات الجوية. لكنني لا أزال أشعر بعدم الاستقرار هنا وينتابني إحساس عارم بفقدان الأمن.

نزحنا عن منزلنا في أوائل سنة 2013 حين تصاعد العنف. كنت أعيش وقتها في منطقة كلابة على مقربةٍ من خطوط القتال، لكنني اضطررت للرحيل والانتقال إلى القرية التي ينحدر منها أسلافي. تركنا خلفنا كل ممتلكاتنا الثمينة ومفروشاتنا وأرضنا. غادرنا المنطقة كي ننجو بأرواحنا، أنا وزوجي وأطفالي.

فقدت بعضاً من أفراد عائلتي بسبب الحرب، كما عانت عائلتنا من ألم التشتت. أصيب أخواي جراء الانفجارات والعنف واضطررنا لإرسالهما إلى صنعاء لتلقي العلاج الطبي.

تضررنا الأكبر في هذه مادياً جراء الحرب، لكن أوضاعنا الصحية كانت الخاسر الأكبر، بسبب الحرب التي أدت إلى إقفال العديد من المستشفيات والمراكز الصحية. ولو أصيب أحدنا بعلة ما، فلن نستطيع إيجاد مستشفى يقدم الرعاية له. حتى لو خاطرنا بحياتنا وأخذناه إلى المستشفى، فلربما لن نعثر على الأدوية لعلاجه، حيث تعاني المستشفيات من نقص في الأدوية والإمدادات الطبية نتيجةً للحرب.

كما أن مجرد الذهاب لزيارة والديَّ قد بات تحدياً كبيراً. فقد كانت الطريق من الحوبان إلى قريتهما تستغرق ساعة إلى ساعة ونصف، لكنها باتت تستغرق اليوم من 7 إلى 8 ساعات، حيث أغادر في الصباح الباكر لأصل بحلول الظلام. الطريق إلى هناك ضيقة ووعرة وخطيرة، وتعبر مناطق جبلية. تشعر وكأنك تسير قريباً جداً من الحافة التي تنحدر بشدة إلى الهاوية. لقد أجبرتنا الحرب على عبور طرقات لم نكن نسلكها من قبل".

msf307373high.jpg

ما الذي يعنيه عملك كقابلة؟

"بدأت العمل كقابلةً بعد أن تخرجت عام 2006. عملت في تعز، ثم في المنطقة الريفية التي نزحت إليها. ساعدت نساء المنطقة حين انتقلت إلى هناك نظراً لغياب أية خدمات طبية قريبة منهن. فقد كنت بالنسبة لهن بمثابة طبيبة قادرة على حل مشاكلهن الصحية، فهم لم يعاملوني أبداً على أنني مجرد قابلة.

يشعرني عملي في القبالة بحجم المسؤولية التي نحملها على عاتقنا. فقد كنت أغادر أحياناً تحت جنح الظلام متجهةً إلى مناطق نائية لمساعدة العائلات، لكنني لم أمانع ذلك وكذلك لم يمانع زوجي الذي يدعم بشدة عملي في تقديم الرعاية الطبية حيثما تكون هناك حاجة إليها. اعتدت على الذهاب إلى مناطق ريفية نائية تفتقر إلى الكهرباء وتضطرني إلى استخدام مصباح جيب لإجراء المعاينة الطبية. كنت أحضر جميع أدواتي الطبية التي أحتاج إليها للتوليد والعلاج في حالات النزف. فقد كنت دائمة الاستعداد للطوارئ، حيث أشعر دوماً بأنني مسؤولية عن روحين في الوقت ذاته: الأم وطفلها".

لماذا قررت أن تصبحي قابلة؟

"اخترت هذه المهنة لسببين. الأول لأنني كنت قد شهدت أمي وهي تضع مولوداً وأنا في السابعة عشرة من عمري. كانت تعاني من آلام مبرحة ولم يكن هناك أحد ليساعد في التوليد. كان هناك في قريتنا طبيب عام فقط، وكنا قد استدعيناه للمساعدة، لكنني شعرت بعدم كفايته بالنسبة لوضع والدتي.

السبب الثاني هو شعوري أن منطقة تعز تعاني نقصاً في القابلات المتخصصات المتمرسات من أجل مساعدة الأمهات على وضع مواليدهن بسلام. فقد كانت تضطر النساء إلى استئجار سيارة والسفر مسافات طويلة لوضع مواليدهن. وكانت هناك حاجة إلى قابلات أكثر خبرة".

ما الذي يحفزك على القدوم إلى العمل كل يوم؟

"إنه لأمر مذهل أن تكوني قادرة على إنقاذ حياة أمٍّ وطفلها. فالمرأة الحامل تكون بحاجة إلى مساعدة قابلة عندما تعاني من مضاعفات في الحمل وخلال مرحلة المخاض وحتى بعد الولادة.

أعمل كقابلة على مدار الساعة، ولا تنتهي مهمتي بنهاية يوم عملي، حيث أغادر المستشفى أحياناً بعد انتهاء مناوبتي ولا يكون وضع المرأة الحامل التي أعتني بها قد استقر أو أنها لم تكن قد وضعت مولودها بعد. أصل إلى البيت وذهني لا يزال مشغولاً، حيث تنتابني مشاعر مختلطة بين القلق والفضول. وأجد نفسي وقد أمسكت لا شعورياً بالهاتف لأتصل بزملائي في المستشفى وأسألهم: ’كيف حالها؟ هل استقر وضعها؟ هل وضعت مولودها؟‘ أبقى قلقة إلى أن أحصل على كل الإجابات. فهذه المرأة مسؤوليتي، وهذا ما أعتقده".

هل لديك رسالة تودين إيصالها بمناسبة اليوم العالمي للمرأة؟

"أودّ أن أشجع النساء على التفكير في هذه المهنة. فدراسة القبالة وسيلة تمكن النساء من مساعدة بعضهن بعضاً. فأنت لا تعلمين من سوف تساعدين، قد تكون جارتك أو صديقتك أو حتى امرأة من عائلتك. لكنك ستسهمين بشكل إيجابي في مجتمعك المحلي، وستقدمين خدمة إنسانية في أي مكان تنتقلين إليه. فمهنتك ترافقك حيثما ذهبت ومعها الفوائد التي تعود على المجتمع الذي تعيشين فيه".

ما هي التحديات التي تواجهها القابلات في اليمن؟

"أن تكوني امرأة فهذا تحدٍّ قائم بذاته... امرأةٌ تعمل ولديها أطفال ومسؤولة عن إعالة أسرة. إذ لا بدّ أن تجدي التوازن بين عملك وبيتك. فكلاهما ينتظران منك أن تقدمي كل ما لديك من طاقة وحب. ولهذا فأنا أفعل كل ما في وسعي كي أعتني بكليهما وألا أهمل أياً منهما على حساب الآخر.

ويعود الفضل في ما أملكه من قوة ونجاح إلى زوجي الذي كان سندي الأكبر خلال مسيرتي المهنية. فقد خسر عمله بسبب الحرب، وهو يدعمني في البيت، حيث يحرص على العناية بالأطفال وتأمين احتياجاتهم حينما أكون خارج البيت أساعد نساء أخريات على العودة إلى أسرهن بعد أن يضعن مواليدهن بسلام".

المقابلة الثانية مع وضحة، 33 سنة، قابلة في مستشفى الأم والطفل في الحوبان، محافظة تعز. مكان الإقامة سابقاً في مدينة تعز وحالياً في الحوبان

منذ متى وأنت تعملين قابلة؟

"عملت في مستشفى الكندي في تعز لمدة 11 سنة، قبل أن ننزح إلى منطقة الحوبان سنة 2016، وحينها بدأت العمل مع منظمة أطباء بلا حدود".

لماذا اخترت القبالة؟

أردت في الحقيقة أن أدرس الطب، فحين كنت طفلة كان أبي يقول لي: ’ينبغي أن تصبحي طبيبة عندما تكبرين... كي تساعدي العائلة‘. وهكذا كنت أكبر وكانت هذه الفكرة تكبر معي. يحب مجتمعنا الأطباء وغيرهم من العاملين الذين يعتنون بالعائلة والبيت والمجتمع، فهذا مبعث فخر. لكنني لم أنجح في مساعيّ لدراسة الطب وكان أمامي خياران، إما التمريض أو القبالة.

فاخترت القبالة لما تعنيه من حيث الرعاية التي نقدمها للأم والطفل. أردت مهنةً تسمح لي بمساعدة عائلتي، وقد زاد تعلقي بالقبالة بعد أن بدأت بممارسة هذه المهنة. فقد ساعدت أخواتي الأربعة على وضع مواليدهن في البيت. أنا البنت الكبرى وقد منحتني القبالة سعادة عظيمة حين ساعدت على ولادة أبناء وبنات أخواتي.

كما كان الناس في منطقتنا يعتمدون عليّ لمعرفتهم بأنني قابلة. فقد كنت أستقبل هنا في المستشفى نساءً يطلبن مني زيارتهن في البيت للمساعدة على وضع مواليدهن، لكنني كنت أحيلهن إلى المستشفى بدلاً من ذلك، مؤكدةً بأنهن سيكنّ في بيئة أكثر أماناً في حال وقعت أية مضاعفات".

ما هي الأسباب الرئيسية للولادات المعقدة؟

"لا يستطيع سكان القرى والمناطق النائية الفقراء زيارة المرافق الصحية. فقد تخضع النساء إلى تصوير بالأمواج فوق الصوتية مرةً واحدة خلال حملهن، أو قد لا يزرن المستشفى أبداً إلى حين موعد الولادة.

فالمسافات الطويلة والتكاليف من أهم الأسباب التي تحول دون زيارة النساء للمستشفيات كي يخضعن للمعاينة والفحوصات، لكن هذه الأسباب تتضمن أيضاً قلة الوعي، ولهذا لا بد من تثقيفهن حول هذا الموضوع".

msf307379high.jpg

هل من مريض يبقى دائماً في بالك؟

"استقبلنا يوماً مريضة كانت خائفة جداً من الإنجاب ولم تستطع التوقّف عن البكاء. اكتشفتُ أنّ طفليها وقعا في بئر ولاقا حتفهما. واتُّهمت الأمّ بالإهمال ووقع اللوم عليها، ما تسبّب لها بصدمة نفسية كبيرة. التفتت إليّ قائلةً، "ساعديني، قفي بجانبي كما لو كنت أختاً لك. سبق لي أن خسرت طفليّ، ولا أريد أن أخسر هذا الطفل أيضاً. أرجوكِ، ساعديني على إنقاذ هذا الطفل".

كانت بمفردها في المستشفى في هذه المرحلة العصيبة. قصّتها أثّرت بي كثيراً. وضعَت مولودها بأمان وكان يتمتّع بصحة جيدة، فملأت فرحتها الغرفة.

بعد فترة، أتت إلى المستشفى باحثةً عنّي للتعبير عن امتنانها. قلت لها، "قمت بواجبي ليس إلّا". فأجابت، "لقد كان يوماً عصيباً بالفعل وكنت بحاجة ماسّة إلى كلام لطيف يبعث في الاطمئنان".

ما الأثر الذي خلّفته الحرب على حياتك؟

"كوني البكر بين إخوتي، وقعت مسؤولية رعاية العائلة على كاهلي. كان بيتنا يقع في قلب ساحة المعركة، فاضطررنا إلى الفرار من تعز بعدما احتدمت الاشتباكات وتزايد القصف بين الأطراف المتحاربة. في البدء، أبت عائلتي المغادرة على الرغم من القصف الذي انهال على البيوت المجاورة. أمست الحياة عصيبة للغاية، فلم يعد لدينا أي طعام أو ماء. وتقطّعت الأسلاك الكهربائية نتيجة القصف، فعشنا على ضوء المصابيح.

بعد اشتداد القصف، ارتأينا الرحيل. قصد إخوتي أولاً مدينة الحوبان حيث قطنت أختي المتزوجة. أراد والداي أن يبقيا في المنزل، وطلبا منّي ومن إخوتي الرحيل. وفي نهاية المطاف، تأزّم الوضع لدرجة أنّهما حزما أمتعتهما وغادرا المنطقة بشكل نهائي.

بلغت قسوة الحرب ذروتها يوم خسرت أمّي. كان أخي مقيماً في مدينة تعز آنذاك. وردتني أخبار بأنّه أصيب بطلقة رصاص. تلقيت مكالمة هاتفية منه ذات يوم، ولكنّه لم يأتِ على ذكر الإصابة. كان يريد رؤية والدتي، مصرّاً على قدومها إلى المدينة بهدف لقائه. قلت له إنّ ذلك كان بغاية الخطورة، خصوصاً وأنّ القناصة منتشرون في أرجاء المنطقة. لشدّة إصراره، بدأت أتساءل عمّا إذا كانت أخبار إصابته صحيحة. أخبرت والدتي ووافقت سريعاً على الذهاب. كنت قلقة عليها فقررت مصاحبتها برفقة إحدى أخواتي.

بعد رحلة طويلة في الحافلة، ترجّلنا منها وأكملنا سيراً على الأقدام. لم تتوفّر أي وسائل نقل عند تلك النقطة بسبب القصف والقناصة. سارت والدتي بعجلة أمامنا وتبعنا خطاها.

فجأةً، رأيت والدتي تسقط أرضاً. لم أسمع صوت الرصاصة الخائنة. لم أسمع شيئاً. ظننت أنّها شعرت بالدوار وخارت قواها. ركضنا تجاهها، وصرخت أختي مذعورة، "ما الخطب يا أمّي؟ هل أنت بخير؟" بقيت والدتي هادئة وطمأنتنا بأنّها على ما يرام. وهمست قائلةً: "أصابتني الرصاصة في ساقي".

في الواقع، اخترقت الرصاصة معدتها وخرجت من ظهرها. ركضنا في أرجاء الشارع مذعورتين، نطلب المساعدة. حاولت أن أبحث عن نبض أو نفس أو بصيص أمل، ولكني لم أجد سوى الخيبة. أزلت الوشاح عن وجهي وربطته حول جرحها، محاولةً بيأس أن أوقف النزيف.

وبمساعدة بعض السكان المحليين، نقلناها إلى مركز الإصابات البالغة الذي تديره أطباء بلا حدود بجوار مستشفى الرسالة. كان لا يزال لدي أمل بإنقاذها، ولكن سرعان ما رآها الأطباء حتى أكّدوا لي أنّها قد فارقت الحياة. صرخت مفجوعة. لم أودّ تصديق ذلك. أعجز عن استيعاب ما حصل حتى اليوم، وعندما أفكّر في الموضوع وأحاول فهمه، أنفجر بالبكاء. توفّت والدتي في 14 مارس/آذار 2016، أي قبل يوم الأم بأسبوع.

من أصعب المهام تولّي دور الأم، فما بالك عندما يمسي من الضروري تولي دور أمك. أصبحت أمّاً لإخوتي وأخواتي وحتى والدي. ولكن، لم يكن أحد أمّاً لي. أنا أكثر من يشعر بمرارة اليتم في هذه العائلة.

لمت نفسي لبعض الوقت، لأنّني الشخص الذي أخبرها بأنّ أخي يودّ رؤيتها، ولكنني اقتنعت لاحقاً أن ذلك كان مقدَّراً، وبأنّ يومها كان قد حان.

حتّى ولو استقر الوضع، لا أوّد العودة إلى منزلنا. كلّ زاوية فيه تذكرني بوالدتي، فأعود وأغرق في أفكاري السوداوية وأشعر بألم الفراق من جديد. أفقد صوابي في كل مرة أواجه حقيقة رحيلها".

ما هي تطلعاتك للمستقبل؟

"أتمنّى لو تنتهي الحرب. أتمنّى لو نشهد ذات يوم على نهايتها. أحلم بمنزل خاص بي، أنعم فيه بالاستقرار والأمان. أودّ أن أكمل دراستي وأسافر إلى الخارج للتعرّف على أماكن جديدة. إنّها أمنيات بسيطة، ولا بدّ من تحقيقها ذات يوم".

إقرأ المزيد عن الممرضات في اليمن:

نعيش مع مرضانا بشكل عملي ونشاركهم أصغر تفاصيل حياتهم؛ هذه بعض الامتيازات التي تمنحنا إياها مهنة التمريض