تمرير

حياتي الجديدة: قصة قصى حسين

26 أغسطس 2019
قصة
الدول ذات الصلة
الولايات المتحدة الأمريكية
شارك
طباعة:

حين وصل قُصيّ حسين إلى مطار جون ف. كينيدي في مدينة نيويورك قبل ستة أعوام لم تكن لديه أية فكرة كيف يصل إلى وجهته. لقد قطع مسافةً بعيدة من منزله في مدينة الحضر الصحراوية في العراق. كان يسافر وحده وقد علّق بطاقةً على قميصه كُتِبَ عليها " أنا لا أتكلم الإنكليزية"، كما أنه لم يكن يستطيع الرؤية فقد أصيب في تفجير انتحاري قبل عدة سنوات سبب له فقدان البصر. لمست امرأةٌ كتفه وسألته باللغة العربية ما إذا كان يحتاج إلى المساعدة. "قلت لها: أنا ذاهبٌ إلى مدينة تكساس – ولكنني لا أعرف أين هي".

بعد بضعة أيام وصل قُصيّ إلى مدينة أوستن حيث انضمّ إلى برنامج لخدمات اللاجئين في تكساس. اصطحبه المسؤول عن ملفه بالسيارة إلى شقة صغيرة أو ما يسمى باستديو في نورث لامار وتركه هناك مع بعض الطعام محذراً إياه بألّا يفتح الباب لأيٍ كان، ثم أقفل الباب وأخذ المفتاح وغادر المكان. شعر قُصيّ بخوفٍ شديد حتى أنه لم يتجرأ على فتح النوافذ. يقول قُصيّ "مضت عليّ عدة ليالٍ وأنا أبكي. تمنيت لو أنني استمعت إلى والدي". لم يكن والد قُصيّ يرغب في أن ينتقل ولده إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعدة أسباب ليس أقلها أنه يعتقد بأن ذلك ينطوي على مخاطر.

1_qusay_airport_update.jpg

ولد قُصيّ في قريةٍ صغيرة في شمال العراق، وهو الولد الأوسط بين سبعة أشقاء – ستة صبيان وبنت واحدة. حين كان قُصيّ في الخامسة عشرة من عمره غادرت العائلة المزرعة التي أمضى فيها طفولته وانتقلت إلى مدينة الحضر وهي مدينة قديمة محصّنة مصنَّفَة من قبل اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي.

في الحضر يتذكر قُصيّ البيت الذي كانوا يسكنون فيه، والشوارع الملأى بالأولاد، والساحات الخلفية النابضة بالحياة حيث يمضي السكان أوقاتهم حتى الفجر. كان قصي يعمل في الصباح وبعد الانتهاء من العمل يتوجه مسرعاً إلى المدرسة. في المساء يجتمع قُصيّ وأصدقاؤه في ملعب ويلعبون كرة الطائرة. في البداية لم يكن لديهم شبكة ولا كرة، فاستعاضوا عن الشبكة بحبلٍ ربطوه بين عمودين وكانوا يستخدمون أي غرضٍ يجدونه ذي شكلٍ مكوّرٍ بدل الكرة.

في 3 أغسطس 2006 كان الحرّ شديداً والجو مثقلاً بالغبار كالعادة، ولكن ذلك لم يَحُل دون أن يمتلئ الملعب بالمشجعين الذين قدموا من مختلف أنحاء المدينة لتشجيع الفريقين. وقبيل نهاية المباراة رأى قُصيّ سيارةً شاحنة تتجه إلى قلب الملعب محملةً بما يشبه أكياس الحبوب. يتذكر قُصيّ كيف التقت عيناه بعيني السائق. يتذكر تلك العينين العابستين بينما انطلق بوق السيارة عالياً قبل أن يقوم السائق بتفجيرها وتفجير نفسه. سقط قُصيّ على وجهه وشعر بأن أنفه قد كُسِر وامتلأ فمه بطعم الدم، وحين نهض محاولاً أن يركض للنجاة بنفسه أصابته شظية ألقت به مجدداً على الأرض وغرق في ظلامٍ دامس.

أصيب 56 شخصاً وقتل 16 بمن فيهم ابراهيم صديق طفولة قُصيّ. تكدّس المصابون في السيارات وعلى ظهور الشاحنات فوق الخضار وحيثما أمكن وضعهم وانطلق الموكب يحملهم إلى أقرب عيادة في مركز المدينة. ولم يكن في العيادة سوى طبيب واحد وبضعة ممرضين ذُهلوا لرؤية هذا العدد من المصابين. ألقى الطبيب نظرةً على قُصيّ وأخبر أباه بأنه لن يعيش أكثر من نصف ساعة، ونصحه بأن يذهب للعناية بأولاده الآخرين، إذ أن اثنين من إخوة قُصيّ أصيبا أيضاً في الانفجار.

3_qusay_yard_hatra_post_us_army.jpg

تُرِك قُصيّ ملقى على أرضية ٍ باردة وصلبة في غرفةٍ هادئة مع عددٍ من الشهداء التي تنتظر أن يأتي ذووها لاستلامها. كان فمه وحلقه ممتلئين بالدم ولم يكن يستطيع التنفس من أنفه ولم يكن يستطيع الرؤية. ولاحقاً في ذلك المساء وبعد أن أشرف والد قُصيّ على العناية بولديه المصابين عاد إلى العيادة ليستلم جثة قُصيّ. دخل الغرفة وهو ينشج بالبكاء ويحاول أن يعثر على ولده فلا يجده. سمعه قُصيّ فناداه قائلاً "لا تتركني هنا يا أبي وإلا فإنني سأموت!" تبع الأب الصوت فأوصله إلى جسدٍ غير واضح المعالم- لقد فقد قُصيّ أنفه وخده الأيمن ونصف جمجمته في الانفجار. كان عمره لا يتجاوز السابعة عشرة.

حين أفاق قُصيّ شعر بالذعر والارتباك وهو يحاول أن يخلص نفسه من عشرات الأنابيب التي شعر بها على وجهه وجسده. لقد مضى عليه في الغيبوبة 12 يوماً. كان يشعر بالعطش الشديد وعدم القدرة على الحركة. طلب من الممرضة أن تعطيه ماءً "مي، مي" كان ذلك كل ما استطاع أن يتفوه به. رطبت الممرضة شفته السفلى بقطعة قطن مبللة بالماء، فشفته العليا قد اختفت ومعدته لم تكن لتتحمل أكثر من بضعة قطراتٍ من الماء على دفعات. في كل يومٍ كان قُصيّ يقول للمرضة "هل يمكن أن تفتحي لي عينيّ" وفي كل مرةٍ كانت الممرضة تجيب "ليس اليوم!"

يمكن اعتبار قُصيّ محظوظاً بشكلٍ من الأشكال إذ تمكن من الحصول على المعالجة. في طريقه إلى أحد مستشفيات الموصل للبحث عن علاج مرّ قُصيّ ووالده على نقطة تفتيش للجيش الأمريكي. وهناك وافق الأب على أن يأخذ الجنود ولده بطائرة هليكوبتر إلى قاعدتهم ليعالجوه هناك. بعد مضي عدة أيام دون أن تسمع الأسرة أي خبرٍ عن قُصيّ توقعت حصول الأسوأ وأقامت مأتماً لتلقي العزاء بولدها الشاب. لذلك لم يصدق الأب حين اتصل به أحدهم هاتفياً مدعياً بأن قُصيّ ما زال حياً بل أغلق سماعة الهاتف منهياً المكالمة. ولكن حين تم الاتصال به مجدداً وإعطاؤه علامة وشمٍ موجود على ذراع قُصيّ الأيمن سمح الأب لنفسه أن يصدق بأن ابنه ما زال على قيد الحياة.

على مدى العامين التاليين لم يغادر قُصيّ المنزل. كان ينام طوال النهار وهو يكابد الآلام، ويُمضي الليل بقرب النار مع والده الذي كان يقص عليه قصصاً نابضة بالحياة حول أناسٍ تغلبوا على صعابٍ واجهتهم في حياتهم، وكان يؤكد لقُصيّ على قيمة الصبر. ومع اشتداد حدة القتال أصبح من المستحيل الوصول إلى الطبابة والتقنيات التي يحتاجها قُصيّ لعلاج إصاباته. كان ما يزال لا يستطيع فتح عينيه، ولا يستطيع التنفس من أنفه، ولا يمكن تغذيته إلا بواسطة إبرة السيرنج. كان الألم يكاد يفوق القدرة على التحمّل ولكن العناية التي أحاطته بها أسرته حالت دون أن يتغلب عليه اليأس أو يغرق في الاكتئاب.

مرت سنةٌ أخرى دون بوادر أملٍ تلوح في الأفق.

ثمّ، وفي إحدى الأمسيات في سبتمبر/أيلول 2009 خلال عطلة عيد الفطر سمع قُصيّ إعلاناً في التلفاز حول تقديم الخدمات الطبية للمصابين بإصاباتٍ بليغة. وبعدها بيومين تكلم قُصيّ مع طبيب من مستشفى الجراحة التقويمية في العاصمة الأردنية عمّان الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود. طُلب من قُصيّ أن يراجع طبيباً موجوداً في مركز الموصل أولاً لعمل صورٍ شعاعية لرأسه لمعرفة ما إذا كانت إصابته تؤهله للانضمام للبرنامج. وبعد أحد عشر يوماً كانت أخت قُصيّ تقرأ له رسالةً نصية تهنّئه بالموافقة على قبوله في البرنامج ولم يستطع الأب التوقف عن الضحك من شدة فرحه بسماع الخبر. وفي نهاية العام غادر قُصيّ ووالده العراق لأول مرة.

في مكتب الدكتور أشرف البستنجي، اختصاصي جراحة الوجه والفكين من فريق أطباء بلا حدود في عمّان سأل قُصيّ الطبيب "هل يمكن أن تحولني إلى طبيب عيون؟" حارَ د. البستنجي، الذي كان قد انتهى للتو من قراءة التقرير الطبي الخاص بقُصيّ بهذا السؤال فقد ورد في التقرير بأن "عينا المريض قد تمزقتا أثناء حدوث الإصابة فقام الأطباء في الجيش الأمريكي باستئصالهما لمنع حدوث التهاب".

على مدى السنوات الماضية أرادت أسرة قُصيّ أن تبقي لديه الأمل حياً بأنه قد يستعيد يوماً ما قدرته على الإبصار. وحين أخبر الدكتور البستنجي قُصيّ بأنه لن يكون بإمكانه أبداً استعادة بصره وقع الخبر عليه وقوع الصاعقة. يصف قُصيّ اللحظة قائلاً "لقد انهارت آمالي كلها. وفقدت كل رغبةٍ لدي بالحياة". في تلك الليلة، فكر قُصيّ بإنهاء حياته. "صليت في تلك الليلة كثيراً. صليت وأنا أبكي. وساعدني ذلك على الاحتفاظ بهدوئي. قلت في نفسي إنني في امتحان. هذه هي اللحظة الأعظم والأصعب في الامتحان، فأخذت أصلي وأدعو أن أتمكن من اجتياز الامتحان".

في اليوم التالي فوجئ الدكتور البستنجي بكيفية تقبّل مريضه الشاب للخبر. "كان مصدوماً [ولكنه] تقبّل الواقع. ليس أمراً سهلاً بالنسبة إليه، ولكن ذلك الشاب الشجاع تقبّل الأمر. هذا ما يجعله إنساناً غير عادي. إنه شخصٌ قويّ، ليس جسدياً ولكن أعني عاطفياً، قويٌ جداً".

أمضى قُصيّ ثلاثة أعوامٍ في مستشفى أطباء بلا حدود في عمّان خضع خلالها لعدة عمليات جراحية وتلقى رعاية في مجال إعادة التأهيل. عمل د. البستنجي مع فريقٍ من أخصائيي العظام والجراحة التجميلية لإصلاح الإصابات التي لم تتم معالجتها في العراق. كانت الصفائح المعدنية التي ثُبِّتَت في الجانب الأيمن من وجه قُصيّ قبل عدة سنوات قد تسببت بالتهابات. وبما أن العظم قد التأم الآن فقد أصبح بالإمكان إزالة تلك الصفائح. وهذا يعني أن قُصيّ لم يعد بحاجة إلى مساعدة حين يريد الاستحمام أو غسل شعره. أجريت له أيضاً عدة عمليات لمحاولة استعادة قدرته على التنفس من أنفه. (في جراحةٍ سابقة جرى استخدام طعمٍ جلدي من فروة رأسه، فكان على قُصيّ أن يقوم كل صباح بحلاقة الشعر الأسود الكثيف الذي كان ينمو حيث يجب ألا يكون هناك شعر).

4_qusay_fild_trips_in_jordan_.jpg

قام فريق الجراحين أيضاً بإعادة تشكيل شفته العليا ورفع جفنيه وتركيب عينين صناعيتين وأخذوا غضروفاً من أذنيه لإعادة تشكيل جزء من جبهته. يمزح قُصيّ قائلاً بأنه كان سعيداً بتلك العملية على وجه الخصوص إذ أنها جعلت أذناه أصغر. يقول د. البستنجي أن قُصيّ "يحب أن يطلق النكات ليجعل من حوله يضحكون" ويروي قائلاً "تزوره في الصباح الذي يلي العملية الجراحية فتجده يمزح و [الناس] يتفاجؤون كيف يمكن لشاب لديه هذا الكم من البؤس أن يستطيع الضحك".

في عمّان، تعمل الفرق الطبية متعددة الاختصاصات معاً لتقديم عناية مركزة للمريض. يقول د. رشيد فخري المنسّق الجراحي في أطباء بلا حدود والذي ساعد على فتح المستشفى في عام 2006 ويعمل فيها منذ ذلك الوقت: "نحن نعالج المرضى المصابين بإصابات حرب أي عمليات معقدة لإعادة الترميم تشمل الجراحة العظمية والتجميلية وجراحة الوجه والفكين". ويقول د. فخري عن قُصيّ "أعرفه جيداً [و] بقيت على اتصالٍ معه على مدى هذه السنوات، لأنه بالنسبة إلي فإن قُصيّ هو مصدر إلهام".

تم افتتاح المستشفى استجابةً لعدم وجود معالجة تخصصية يمكن أن يحصل عليها المدنيون الذين أصيبوا خلال السنوات الأولى من حرب العراق. يقول د. فخري: "أغلب المصابين كانوا ضحايا للانفجارات، أو القنابل المزروعة على جوانب الطرق أو العيارات النارية". وبعد انطلاق الربيع العربي بدأ المستشفى يستقبل إصاباتٍ من بلدانٍ أخرى في المنطقة أغلبها لضحايا من اليمن وسوريا يأتون بإصاباتٍ معقدة ناجمة عن القنابل البرميلية والمنازل المدمرة" .

إذا لم يكن لدى المرضى المال الكافي لإجراء العمليات الجراحية باهظة التكاليف في المستشفيات الخاصة في بلدانهم –على فرض أن تلك المستشفيات لديها المعدات والتقنيات اللازمة- فإن معظم الضحايا يبقون دون معالجة ولا أمل لديهم في المستقبل. يقول د. فخري إن "إجراء العمليات الجراحية لمرضى لا يملكون أية إمكانية للوصول إلى العلاج في وقت الإصابة هو في حد ذاته عاملٌ مطمئنٌ للمرضى بأن المستقبل يمكن أن يكون جيداً على الرغم من كل شيء".

بعد الجراحة تتم متابعة المرضى أيضاً بتقديم العلاج الفيزيائي والتوعية الصحية وضبط الألم والدعم النفسي. يقول د. فخري: "كل هؤلاء العاملين يلعبون دوراً جوهرياً حقاً في جعل المرضى يجدون طريقهم نحو العودة لحياتهم الطبيعية". مرة في كل شهرٍ تقريباً يُنظِّم الفريق الطبي أيضاً نشاطات علاجٍ جماعي كالأمسيات الشعرية (قُصيّ مشارك دائم فيها) والجولات الميدانية في مواقع حول المدينة.

5_qusay_trapped_in_austin_apartment.jpg

في أحد الأيام، وخلال رحلةٍ بالباص إلى البحر الميت سمع قُصيّ كم كان الجميع فرحين، كان المشاركون في الرحلة يرقصون ويضحكون ويغنون. وفكر كم هي مهمة ومفيدة مثل هذه الرحلات للصحة النفسية للمرضى. وسأل قُصيّ محمد، سائق الباص "إذا استطعنا أن نجد عدداً كافياً لملء الباص، هل تأخذنا حيثما نريد؟" أجاب محمد بأنه إذا استطاع كل واحد دفع خمسة دولارات لتغطية تكاليف الباص فإنه يوافق. وهكذا، صار قُصيّ يخطط لرحلةٍ كل يوم جمعة مع المرضى الآخرين. زارت المجموعة جبال عمّان السبعة والعقبة والبتراء وأماكن عديدة أخرى. يقول قُصيّ: "السعادة، الابتسامات، الصور الجماعية التي التقطوها والصور التي أرسلوها إلى عائلاتهم- كل ذلك أعاد إليهم الإحساس بأنهم بشر طبيعيون من جديد" وأضاف قائلاً: "لقد جعلني ذلك أشعر بأنني شخص مهم".

باشر قُصيّ أيضاً برنامجاً تدريبياً للمرضى الذين فقدوا القدرة على الإبصار وتمكن أخيراً أن يقوم بمفرده باستطلاع العالم الذي يقبع خلف جدران المستشفى. يقول قُصيّ "استعدت استقلاليتي. أصبحت الشخص الذي أريد أن أكونه" ويضيف قائلاً "لقد كانت السنوات الثلاث التي أمضيتها مع أطباء بلا حدود في عمّان أجمل السنوات بالنسبة لي. لقد التقيت بأناسٍ عديدين، من ثقافاتٍ مختلفة... كلٌ منهم أضاف لي شيئاً".

مع اقتراب علاجه من نهايته، بدأ قُصيّ يفكر في مستقبله وكيف ستكون حياته إن هو عاد إلى العراق. "في بلادي لا يدعمون المكفوفين بأي شيء. حين فكرت بذلك علمتُ أنه يتعيّن عليّ أن أذهب إلى بلادٍ حيث أجد من يؤمن بي – كشخص... كإنسان".

قام أحد الأصدقاء بدعوة قُصيّ إلى فعّاليةٍ تقيمها منظمة الهجرة الدولية في الأردن وهناك ألهمته قصة طبيبة مكفوفة من الأراضي الفلسطينية كانت قد درست في الولايات المتحدة الأمريكية. يقول قُصيّ "هدفي الأساسي كان أن أحصل على التعليم، أن أتعلم لغةً جديدة، ثم أفتح صفحةً جديدةً في حياتي. أن أنسى الحياة التي كنت فيها مبصراً والحياة التي أصبت فيها بالاكتئاب بعد أن فقدت بصري في العراق. لهذا السبب أصبحت لاجئاً.

"أنا لم أختر الولايات المتحدة الأمريكية. قدري هو الذي قادني إلى الولايات المتحدة الأمريكية".

6_qusay_classroom_final_.jpg

يقيم قصيّ اليوم في شقةٍ في بناءٍ من طابق واحد على زاوية تقاطعٍ مزدحم في إيست أوستن. غرفة نومه الأنيقة والنظيفة جداً تختفي وراء ستائر تبقى مسدلةً طيلة الليل والنهار. على حائطٍ في منتصف الغرفة وتحت شهادات التكريم التي حصل عليها على إنجازاته وشهادات تخرجه عُلِّقت صورة كانت قد التُقِطت لقُصيّ مع والديه في منزلهما في الموصل في مايو/أيار الماضي- وقبل أسابيع قليلة من وفاة والدته. تلك الزيارة كانت الأولى لقُصيّ إلى العراق منذ أكثر من سبعة أعوام.

يقول قُصيّ عن مدينته: "الموصل الآن مدينة منكوبة. إنها مدمرة بالكامل. كل شيء- التاريخ، والإنسان... حين ذهبت إلى هناك، صدقني، لقد بكيت". في عام 2014 حين استولى تنظيم الدولة الإسلامية [داعش] على مدينة الحضر أُجبِرت عائلته على ترك الموصل بعد أن دُمِّر منزلهم؛ بالكاد استطاعوا الهرب قبل أن ينهار المنزل.

يقول قُصيّ: "أستمع إلى المواقف المعادية للاجئين في نشرات الأخبار فيحزنني ذلك. اللاجئون يحتاجون إلى المساعدة. يحتاجون إلى مساعدة الجميع وليس فقط مساعدتي. اللاجئون لم يأتوا من ظروفٍ سعيدة. هم لم يأتوا لأنهم أرادوا المجيء بل لأن لديهم ظروفاً أخرى أرغمتهم على مغادرة بلدانهم. إنهم يبحثون فقط عن حياةٍ أفضل".

حين وصل قُصيّ إلى تكساس لأول مرة في ديسمبر/ كانون الأول 2012 وبعد بضعة أسابيع مؤلمة أمضاها حبيس جدران غرفته أدرك بأن عليه أن يأخذ زمام حياته بيديه. طلب قُصيّ من المسؤول عن ملفه الاتصال بمترجم وحين أمسك قُصيّ الهاتف قال للشخص الذي على الطرف الآخر "قل له من فضلك أنني أريد أن أخرج من المنزل" وأضاف قائلاً "أريد أن أتفاعل مع الناس، أحتاج إلى أن أرى بشراً، لقد تعبت من مجرد الجلوس هنا وحدي، لا تلفاز ولا راديو- لا شيء".

في ذلك المساء عاد المسؤول عن الملف واصطحب قُصيّ في جولةِ تسوق. يقول قُصيّ "حين دخلت إلى المتجر، سمعت العديد من الناس يتكلمون، فقلت في نفسي ’إنني في الجنة، يا إلهي، هذه هي أمريكا‘... لقد كدت أطير من الفرح في ذلك اليوم".

قام قُصيّ بالتسجيل في دروسٍ لتعلم اللغة الإنكليزية في مؤسسة "إنترفيث آكشن أوف سنترال تكساس" وخلال أربعة أشهر كان لديه من الثقة ما يكفي للتسجيل في دورة الإنكليزية كلغة ثانية في كلية "أوستن كوميونتي كوليج". لم تتسنَّ الفرصة لقُصيّ أن ينهي دراسته الثانوية في العراق لكنه كافح حتى حصل على شهادة التعليم العام كما حصل على جائزة الإنجاز الطلابي الرئاسية. أرسل قُصيّ التسجيل الذي يحوي كلمته عند قبول الجائزة، ومدته خمس دقائق، إلى عائلته في العراق. يقول قُصيّ "عندما رأوا الفيديو غلبهم البكاء، على الرغم من أنهم لا يفهمون اللغة الإنكليزية" فيشرح أبوه الأمر قائلاً "لأنني رأيتك تقف على المنصة وقد وقف الناس وصفقوا حين انتهيت من إلقاء كلمتك. إنني شديد الفخر بك".

قُصيّ الآن طالب في سنته الأولى في جامعة تكساس – والتي يضمّ حرمها الواسع أكثر من 50 ألف طالبٍ وطالبة. يجلس قُصيّ في الصف الأمامي من المدرج الذي يضم 250 طالباً معظمهم في سنتهم الأولى. ليس هناك أوراق ولا أقلام ولا حاسب محمول على طاولته مثل الطلبة الآخرين بل فقط قهوة وآلة تسجيل صوتي. يقول البروفسور د. كارل غالينسكي، أحد مدرسي قُصيّ: "لا شيء يجعل التعامل معه صعباً. يتعامل باحترافية عالية، شديد التركيز، وهو طالبٌ جيدٌ جداً. وأنا لا أحابيه إذ أقول ذلك. إنه يتمتع بدافعٍ ذاتي وهو أمرٌ مهمٌ جداً بالإضافة إلى الذكاء. إنه مُبادِر".

قبل وصوله إلى الولايات المتحدة لم يسبق لقُصيّ أن استخدم الكمبيوتر. ولكنه علّم نفسه على استخدامه، تماماً كما تعلم اللغة الإسبانية ولغة بريل، وهو يحصل على العلامة العليا في أغلب الأوقات ويحافظ على مستوى مكافئ للطلبة الآخرين. ولكن حتى يحافظ على ذلك فإن عليه أن يبذل جهداً مضاعفاً كأن يأخذ دروساً إضافية (كثيراً ما تكون المراجع المطلوب قراءتها غير متوفرة فيتعين عليه أن يقطع مسافةً طويلةً في الجامعة ليطلبها). يتخصص قُصيّ بعلم النفس في جامعة تكساس وسيبدأ بالدكتوراة في 2020. يقول قُصيّ: "أكبر أحلامي هو أن أحصل على شهادة الدكتوراة وأعود إلى أطباء بلا حدود في عمّان لأعمل هناك كمعالجٍ نفسي. أودّ أن أعمل مع المصابين والضحايا وغيرهم من الفئات التي ترزح تحت ظروفٍ صعبة. أظن أنني أعرف كيف أساعد الآخرين الذين يمرون بتجارب مماثلة- هذا هو حلمي".

قام قُصيّ بإلقاء محاضراتٍ تحفيزية في عدة أماكن في أنحاء من العالم. في أوائل العام الماضي سافر إلى رومانيا ليتحدث أمام فتيانٍ وفتيات تعرضوا لليتم وهم في سنٍّ صغيرة. وبعد ذلك بمدةٍ قُصيّرة ذهب إلى العراق ليتحدث أمام حضورٍ من ذوي الإعاقة مع منظمةٍ تركِّز على الدفاع عن حقوق النساء والأطفال. كما سافر أيضاً إلى عدة ولاياتٍ في الولايات المتحدة الأمريكية بما في ذلك واشنطن العاصمة وفلوريدا وكاليفورنيا وأوكلاهوما. ومؤخراً وبعد أن ألقى كلمةً في الكلية الأمريكية لطب القلب اقتربت منه سيدتان وقالتا له أنه غير حياتهما؛ لقد منحهما كلامه الثقة والحافز للتسجيل في صفوفٍ تعليمية.

msf278003high.jpg

قال لهما قُصيّ: "أرجو أن تسعيا لتكونا شيئاً عظيماً في مجتمعكما وفي بلدكما وفي بلدتكما" ثم قال: "قد منحتني هذه البلاد فرصاً كثيرة وأملاً لأبدأ حياةً جديدة. أودّ أن أردّ الجميل لهذا البلد الذي ساعدني مساعدةً هائلة. إذا عملنا جميعاً مع بعضنا البعض، ستنتظرنا جميعاً أياماً أجمل وسيكون مستقبلنا أكثر إشراقاً".