تمرير

قصص لاجئين ومهاجرين من ليبيا التي يغيب عنها القانون

28 مارس 2021
قصة
الدول ذات الصلة
Libya
شارك
طباعة:

ليبيا ليست بلداً آمناً، وكثيراً ما نسمع بذلك. وقد ثَبَتَ هذا الأمر مراراً وتكراراً. مع ذلك أعتقد أن الكثير من الناس مازالوا لا يدركون معنى ذلك حقاً.

في ديسمبر/كانون الأول، قُبيل فترة أعياد الميلاد، تلقَّى فريق أطباء بلا حدود الطبي اتصالاً هاتفياً: كانت هنالك امرأة في غرفة الطوارئ بمستشفى طرابلس الجامعي، وهي في المستشفى منذ يومين وقد تلقت بعض التدابير العلاجية الداعمة وبعض الفحوص لكن الأطباء هناك لم يستطيعوا إدخالها تبعاً لعدم وجود وثائق تعريف بحوزتها وعدم وجود قريب معها. فطلبوا من أطباء بلا حدود المساعدة. أخذناها إلى عيادة الإحالة ونقلناها إلى العناية المركزة على الفور. لكن وضعها الصحي كان متفاقماً، ورأى أطباؤنا أنه ليس هناك الكثير مما يمكن فعله لإنقاذ حياتها. و بعد بضعة أيام توفيت. لم نعرف أبداً من أين هي ولا من تكون. لم نتمكن حتى من الاتصال بعائلتها لنخبرهم بوفاتها وكان على طاقمنا أن يتولى مسؤولية إخراج الجثة.

الكثير من اللاجئين والمهاجرين في ليبيا، إن لم يكن معظمهم، ليس لديهم حقوق، ولا يستطيعون أن يعيشوا حياة طبيعية. إذا ما استهدفك مجرمون، فليس بوسعك الذهاب إلى الشرطة فقد تُعتَقل. وإذا ما قرر رب عملك ألا يدفع لك فلا يمكنك فعل شيء. وبينما أنت تمشي في الطريق إلى بيتك عائداً من العمل، متعبٌ ومحبَط، فقد تُعتَقل وتُؤخذ إلى مركز احتجاز.

قصتا حسن وعثمان

هذا ما حدث لحسن ذي السبعة عشر عاماً. عندما التقيته شعرت أن عينيه مليئتين بالقلق، لكنه كان يحدق نحو قدميه، ولعله لم يرد أن يبدو عليه ذلك. ويقول حسن: "لقد سافرت عبر بلدان عديدة في إفريقيا لكني لم أرَ رجلاً أبيض يُعامَل كما يعامِل البيض [الليبيون] الناسَ السود هنا في ليبيا أو في البحر. نحن نأكل على الأرض، وننام على الأرض ذاتها؛ في ذات الغرفة التي نذهب بها إلى المرحاض. إنه أمر مقرف. أي إنسان يُجبر آخر على العيش هكذا؟" يدا حسن جافتان للغاية لدرجة أن جلده يتساقط. سألته عن سبب ذلك فأخبرني أنه بسبب العمل اليدوي الشاق، فقد جاء إلى ليبيا كي يعمل ويرسل المال ليساعد أهله. وأخبرني أنه لم يكن يشعر بالأمان حتى في المكان الذي يعيش فيه، وأنه ينام بكامل ثيابه لأن المجرمين يأتون لسرقتهم ليلاً. بالنسبة لحسن وأمثاله، فليبيا بلا قانون.

سمعت قصصاً مماثلة عدة مرات، لا سيما في أحياء طرابلس حيث يسعى اللاجئون والمهاجرون لأن يعيشوا حياة طبيعية. تستهدف العصابات والميليشيات الإجرامية هذه الفئات بشكل ممنهج. ليس هناك الكثير مما يمكن أن يسرقوه لكن الناس غالباً ما يقولون لنا أن المرء قد يُقتل من أجل مجرد جهاز هاتف، فالخوف شعور شائع. أبلغني عثمان بذلك في أول لقاء لي به. هو شاب يافع بابتسامة عريضة. غادر الصومال بسبب الحرب. كان يبحث عن مكان آمن وقرر السفر إلى أوروبا. لكن في الليلة التي كان ينتظر فيها ركوب أحد القوارب في طرابلس، داهمت الشرطة منزل المهربين. طاردوا عثمان فوقع من الطابق الأول من البناء، ومن حينها وهو غير قادر على المشي، وهو حالياً عالق في مبنى مهدم في حي قرقريش، في غرفة صغيرة مظلمة تبدو وكأنها كهف. "عندما يأتي اللصوص يهرب الجميع، لكن كل ما يمكنني فعله هو الاختباء تحت البطانيات على أمل ألا يروني".

قرر حسن وعثمان، مثل كثيرين غيرهم، عبور البحر المتوسط، وقد اعتُرِضوا مع أكثر من 15,000 شخص في عامي 2020 و 2021 من قبل خفر السواحل الليبي وأعيدوا قسراً إلى ليبيا، حيث احتُجز الكثيرون في مراكز احتجاز.

"أرجوكِ أن تقنعي الحراس أن يسمحوا لي بالاتصال بأمي"

أول مرة دخلت فيها مركز احتجاز للمهاجرين في طرابلس رأيت شيئاً مألوفاً. أحد الجدران في العنبر الذي تستخدمه أطباء بلا حدود للاستشارات الطبية عليه عدد من الملصقات من الوكالة الإيطالية للتعاون الدولي. على الملصقات النص التالي: ’إغاثة 11242/01، نحو هجرة مستدامة‘. تبسمت زميلتي الليبية (أو ذلك ما ظننته، إذ كنا نرتدي الكمامات) عندما أخبرتها كم شعرت بالخجل أن أموال الضرائب التي أسهم في دفعها انتهى بها المطاف في هذا المكان. لكنها استدركت بنبرة أكثر جدية قائلة أنها أيضاً تشعر بالخجل كون مراكز الاحتجاز هذه موجودة في بلدها.

في العنبر الرئيسي الذي يُحجَز فيه الناس، لا يدخل الضوء إلى المكان سوى من النوافذ العالية القريبة من السقف، ومعظمها مكسور، لكنها موجودة هناك في الأعلى ولا فائدة منها غير أن يدخل منها البرد والمطر لا أن توفر تهوية ملائمة للمكان. دخلتُ إلى الزنزانة الرئيسية مع الفريق الطبي من أطباء بلا حدود لتوزيع (بلامبي نت) – وهو معجون فول سوداني غني بالسعرات الحرارية نعطيه عادة للأطفال المصابين بسوء التغذية. نوزعه للكبار في مراكز الاحتجاز لأننا نعلم أنهم لا يتلقون الطعام الكافي. وقد أوردت فرقنا سابقاً وجود حالات سوء تغذية شديد في مراكز الاحتجاز بطرابلس. ونأمل من خلال توزيع المكملات المغذية أن نتجنب حدوث المزيد.

يقرفص المحتجزون في صفوف طويلة، دون أن تلمس أعقابهم الأرض، وظهورهم محنية وعيونهم للأسفل. أمامي نحو 150 شخصاً لكن يبدو أنهم يشغلون مكاناً صغيراً. وبينما أنظر إلى هؤلاء الناس تذكرت أن امرأة أخبرتني يوماً أن النظر في عيني المهاجر أمر له مغزى كبير، فهو يعيد لهم إنسانيتهم. في تلك اللحظة أدركت أنها كانت مصيبة تماماً.

العديد من الذين تحدثت معهم لم يبق لديهم أي أمل، كانوا يشعرون كأنهم عالقون في طوق، بدون حلول ولا خيارات أو اختيارات. لا يستطيعون العودة إلى ديارهم ولا البقاء في مركز احتجاز يُعامَلون فيه بتلك الطريقة، ولا يمكنهم البقاء في ليبيا ولا الوصول إلى أوروبا. لقد حاولوا، وفي كل مرة كانوا يُعادون.

في أحد الأيام التقيت بمجموعة، كانوا ناجين من غرق سفينة. تحدثت مع رجل كان قد فقد شقيقه في تلك الليلة. قال لي: "أرجوكِ أن تقنعي الحراس أن يسمحوا لي بالاتصال بأمي. أنا متأكد أنها تظن أني ميت أيضاً؛ علي أن أخبرها أني نجوت".

الإدلاء بالشهادة على المعاناة

خلال الأشهر التي عملت فيها في ليبيا، كثيراً ما كنت أجد نفسي أفكر في ذات الأسئلة. ما الذي ينقص الناس حتى يفهموا فعلاً ما يحدث في ليبيا؟ هل أولئك الذين يعانون غرباء عنا لتلك الدرجة؟ هل نعتقد أن ليبيا بعيدة جداً لدرجة أن ما يحدث فيها لا يعنينا؟

منذ مدة لا بأس بها وأنا أسمع أن الناس سئموا سماع القصص القادمة من ليبيا. وتسمى تلك الحالة ’فتور همة المتعاطفين‘. لن تجد فتور الهمة هذا لدى فريق أطباء بلا حدود الطبي الذي يذهب يومياً، ومنذ سنوات، إلى مراكز الاحتجاز، وإلى أحياء طرابلس ليتأكد من حصول الناس على الرعاية. وتشهد فرقنا كل يوم على معاناة اللاجئين والمهاجرين الناجمة عن غياب القانون والاستغلال ونقص الحماية والوصول المحدود إلى الرعاية الصحية الأساسية.