تمرير

حكايات شاب منهك

22 أكتوبر 2019
تدوينة
شارك
طباعة:

الاستسلام أخيراً

بعد أن أمضيت السنوات الأربع الماضية في العمل مع أطباء بلا حدود، وصلت إلى جنيف لاجتماع ما قبل التوجه إلى المهمة الجديدة. كان يفترض أن أسافر إلى الكاميرون لعدة أشهر للمساعدة في تصميم وبناء مستشفى جديد هناك.

كنت أشعر بالاضطراب والإنهاك بشكل عام، إضافة إلى شعور الغثيان والدوار الذي كنت أتجاهله لبعض الوقت أثناء انشغالي بالعمل مندفعاً بطاقة الحماس و"الأدرينالين"، أتبع دورات تدريبية وأتابع بحثي العلمي وأتحضر لمهمتي التالية.

كان هذا الشعور مألوفاً، فقد انتابني أيضاً في نهاية مهمة طويلة مع أطباء بلا حدود في تشاد، وكذلك بعدها بعام في جمهورية إفريقيا الوسطى.

أرسل لي مسؤول الموارد البشرية طبيباً محلياً. وبعد الاستشارة والفحوص الطبية دون التوصل إلى نتائج حاسمة، قررت الوقوف عند ذلك الحد، وأبلغت أطباء بلا حدود أنني لن أذهب للمهمة التالية.

في تلك اللحظة فقط، أي عندما قررت أن أستسلم وأتقبَّل أن هناك خطب ما، بدأ مستوى الأدرينالين يهبط وبدأت أدرك الضرر الذي ألحقته بنفسي دون قصد.

إجهاد عضلات الدماغ

إذا أجهدت جزءاً من جسمك فوق طاقته، فستكون النتيجة أن هذا الجزء سيتأذى مع مرور الزمن، وإذا تجاهلت الإشارات التحذيرية، فقد يحدث ضرر طويل الأمد. وإذا وقعت لك إصابة كبيرة، فإن أي استعمال ولو بسيط لذلك الجزء سيسبب عدم ارتياح، أما إذا استعملته كثيراً فسيحدث ضررٌ أكبر يحول دون الشفاء.

كان ذلك ما شعرت به.

قلت لصديقتي أنني أشعر كما لو أني "أجهدت عضلة داخل دماغي".

كنت أشعر بالدوار إذا ما بدأت أقرأ أو أستمع أو أتحدث عن أي شيء معقد، بالأخص باستخدام الشاشة (كالهاتف أو الحاسوب) حتى لو لفترة قصيرة.

إذا قرأتُ في كتاب لمدة عشرين دقيقة كنت أشعر بالغثيان والدوخة، وأضطر إلى تجنب إدخال أي شيء في ذهني لبقية اليوم، بينما تتلاشى الأعراض على مهلها.

بسبب الشد العضلي والإرهاق أصبح حتى النشاط البدني صعباً، إن استثنينا المشي البطيء مع التوقف بين الحين والآخر. وشعرت أنني معوق.

قبل حدوث هذا، كنت أعتبر أن صحتي جيدة من الناحية الجسدية والنفسية. كانت حياتي الاجتماعية جيدة، وكنت أمارس التأمل يومياً وآخذ إجازات طويلة بين المهمات التي أقوم بها مع أطباء بلا حدود.

ومع هذا حدث ذلك لي – ما جعلني أعيد التساؤل حول جميع معتقداتي فيما يخص الصحة.

قلق غير ظاهر

بالتدريج بدأت أدرك أن توتراً غير ملحوظ يعتمل في صدري مع عدة أعراض أخرى. وقد دفعني اكتشاف شعور القلق شبه الخفي هذا إلى بدء النظر في الأمر بطريقة مختلفة.

لم يبدُ مصطلح "اضطراب القلق" منطبقاً تماماً على حالتي، حيث أن حالتي الذهنية (ظاهرياً على الأقل) كانت هادئة تماماً.

أما الأعراض الجسدية فكانت أشبه بأعراض شخص يعاني من نوبة هلع – دوخة، غثيان، نقص شهية، حرارة، عدم قدرة على التفكير جيداً – باستثناء أنه في حالتي لم تكن تلك الأعراض حادة، بل كانت تعاودني بمستويات مختلفة من الشدة طوال اليوم وكل يوم.

ذهبت إلى طيف واسع من مختصي الرعاية الصحية بحثاً عن علاج. لا توجد إشارة لاضطراب نفسي أو عصبي أو إجهاد – حتى بعد إجراء جميع أنواع الفحوص والصور التي عرفتها البشرية، كانت النتيجة تقول أنني "طبيعي".

لو أنني كنت أعطيتُ بعض الأمثلة عن العاملين في القطاع الإنساني الذين يصابون ب"إنهاك" – لكنتُ تفاديت الكثير من النهايات المسدودة.

كيف تحسنت حالتي؟

حالما توقفت عن رؤية مشاكلي من زاوية جسدية، بدأت باتباع طريق مختلف.

بمساعدة وحدة دعم الكوادر في أطباء بلا حدود المملكة المتحدة، بدأت تلقي جلسات علاج سلوكي معرفي (CBT).

تتبع جلسات العلاج السلوكي المعرفي أسلوباً ثابتاً على مدى 6 – 10 جلسات لتحسِّن كيفية أدائي، لكن دون الغوص في الماضي. وبالرغم من أن هذا العلاج ساعد بعض الشيء على المستوى السطحي، ولأني مارست لسنوات رياضة التأمل، لم يتحقق شيء جديد يذكر.

وبناءً على نصيحة طبيب نفسي، بدأت تناول مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRI) طيلة تسعة أشهر. وبالرغم من أن الدواء خفف الأعراض (وهو أمر محبب)، إلا أني شعرت أن الدواء وحده لم يحل المشاكل الكامنة في العمق.

أخيراً، راجعت معالجاً نفسياً، أتى ببعض الأفكار النيِّرة، منها البحث عن الأسباب الأصلية لما أعانيه، بالرجوع إلى سنيِّ حياتي الأولى.

على عكس العلاج بالأدوية، تعامَلَ العلاج النفسي مع بعض المشاكل العميقة وأتاح لي إعادة ضبط أولوياتي وطريقة تفكيري وأسلوب حياتي. إلا أنه وبحكم الإطار الزمني الطويل فيما يخص أساليب العلاج النفسي كان من الصعب رؤية أي أثر مباشر ملموس على الأعراض التي كانت لدي.

"الدماغ يأكل الجسد"

أحد الأساليب الذي أشعرني بالكثير من الارتياح كان تاي تشي / تشي غونغ (أي: تخيل أشخاصاً مسنين يلوحون بأذرعهم ببطء في الحديقة العامة).

وفق الفكر الطاوي (أو المدرسة الطاوية) والتي تعود لها هذه الممارسات، فإن تشخيص حالتي المرضية كان ’إنهاك في النظام العصبي‘. وبالنظر الآن إلى حالتي آنذاك، أرى أن التشخيص صحيح. فقد ذهبت من مهامي مع أطباء بلا حدود إلى دراسة الماجستير في الصحة العامة ثم إلى رحلة مكثفة لصعود الجبال، ثم عدت لأحضِّر نفسي لمهمتي التالية مع أطباء بلا حدود.

بحسب الفكر الطاوي، فإن مقداراً كبيراً من الطاقة "عَلِقَ" في رأسي، وأصبحَت أحوال القلق والهوس والحماس المفعم بالأدرينالين أموراً اعتيادية. أصبحتُ حساساً بشكل متزايد تجاه التوتر – كسلك كهربائي رفيع سينقطع محدثاً دارة قصيرة إذا ما جرى فيه الكثير من التيار.

مع عجزي عن قراءة العلامات، وقعت في حلقة مفرغة. ورحت أعمل أكثر فأكثر، مدفوعاً بطاقة الأدرينالين المضطربة، ومحاولاً في الوقت ذاته إلهاء نفسي. صرت أتمرن أقل من السابق بسبب التوتر والتعب.

استمر الضرر في التراكم حتى لم تعد أجهزتي قادرة على تحمل المزيد وراحت صفارات الإنذار ترن. تسمى هذه العملية بأكملها ب "الدماغ يأكل الجسد".

ساعدتني تمارين "تشي غونغ" البطيئة والمكررة على الشعور كما لو أني ألفظ بعضاً من هذه التوترات العميقة المتراكمة، جسدياً ونفسياً. كما ساعدتني على "تقوية" جهازي العصبي من خلال تحسين اتصالي بجسدي وتثبيتي.

تحسَّن كذلك وعيي بذاتي – ما أتاح لي أن أتبين أي الأنشطة أو الأحوال مفيدة أو ضارة وأن أقرأ علامات "الإفراط". ومع عودة كل شيء للسير بشكل أفضل، بدأت أشعر أن لدي المزيد من الطاقة والوضوح، وحتى الإبداع!

أين أنا الآن؟

مضى الآن أكثر من عامين على انهياري وأعتبر نفسي محظوظاً أنني تمكنت من استعادة عافيتي بالتدريج.

تحولتُ من عملي في تصميم وبناء مستشفيات لأطباء بلا حدود إلى عمل يدوي أكثر: ألا وهو النجارة. أقوم بشيء أستمتع به جداً وأعمل بالقدر المناسب.

أحب أن أعود للعمل مع أطباء بلا حدود لكنني أعرف بأن العودة، قريبة كانت أم بعيدة، لن تعيد تلك الأعراض فقط، بل ستقلل من فرصي في تعلم هذه الدروس الأعمق.

الدروس المستفادة

خلال العامين الماضيين كان تحسني بطيئاً لكنه كان مضطرداً. أما التحولات الأساسية التي حققتها فهي:

  • تعلمت الاستماع إلى إشارات جسمي => معرفة متى أتوقف ومتى أقول لا
  • أن أفعل ما أشعر أنه مناسب لي => لا ما ينبغي أن أفعل، ولا لأنجز ولا لأُبهر الآخرين
  • أن أعمل بطريقة ممتعة => لا أن أحاول زيادة الإنتاج أو الفعالية للحد الأقصى
  • استشعار الوقت المناسب للقيام بالأشياء => لا أن أسوق الأشياء بالقوة

نحن جميعاً مختلفون عن بعضنا، ولدينا احتياجات مختلفة، ومستويات تحمل مختلفة، لكن لجميعنا حدود معينة. تحتاج المنظمات والمدراء إلى معرفة العلامات التحذيرية – إذ أن شخصاً في وضعي لا يستطيع في أغلب الأوقات أن يرى أنه يجري على قدم مكسورة.

أتأمل ما كان يحدث معي، لم تكن الدوخة هي العلامة التحذيرية الوحيدة التي تلقيت. فكان ينتابني تشنج مؤلم متواصل في القدم، وألم في الركبة، وتوتر عام في الجسم في الشهر الأخير قبل أن أصل إلى "الإنهاك" النهائي. ومع تحسن وضعي العام اختفت جميع هذه الأعراض بالتدريج. ما زلت أشعر بالدهشة أن كيف يمكن أن يصاحب الأحوال النفسية-العصبية مثل تلك المؤشرات الجسدية المحسوسة والملموسة.

آمل ألا يمر أي منكم بما ذكرت. وأرجوكم أن تخصصوا بعض الوقت الإضافي للاستماع إلى ما تقوله لكم أجسامكم، واضعين نصب أعينكم ما قد يحدث إذا ما تجاهلتم ذلك الصوت الرقيق الهامس لمدة طويلة.