تمرير

علاج.. صداقة.. قصص.. مواساة: زيارة إلى مستشفى أطباء بلا حدود للجراحة التقويمية

21 أبريل 2019
تدوينة
الدول ذات الصلة
الأردن
شارك
طباعة:

مدونة بقلم أبيغيل بيتس، من فريق عمل أطباء بلا حدود، لندن.

أنشئ مستشفى الجراحة التقويمية في عمان عام 2006 في الأساس استجابةً للإصابات الشديدة التي خلفتها الحرب في العراق. لكنه يعالج اليوم مرضى بحاجةٍ إلى رعاية جراحية تخصصية يأتون من العرق وسوريا واليمن وفلسطين. حيث يجري الفريق عمليات الجراحة التقويمية (الجراحة العظمية وجراحة الوجه والفك والجراحة التجميلية وجراحات الحروق)، كما يقدم الرعاية الطبية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وغالباً ما يكون الأمل الأخير للناس من أجل إعادة تأهيلهم...

زرت فيما مضى جدي وجدتي وأقرباء لي في المستشفيات، إلا أنني لم أشعر براحة تمامة فيها. لكن دخول مستشفى أطباء لا حدود للجراحة التقويمية في عمان أشبه تقريباً بدخول بيت أحد الناس، خاصةً وأنه بيتٌ للعديد من المرضى الذين يقيمون في غرف تقع في الطابقين الرابع والخامس من المستشفى.

كان صباحاً بارداً في شهر فبراير/شباط حين وصلنا في أول يوم لنا في المستشفى، حيث كان الناس يحومون خارج الأبواب الرئيسية فيما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث وتتعالى ضحكاتهم. لم نلبث إلا قليلاً حتى رأينا عدداً من الكراسي المتحركة والعكازات وأجهزة تثبيت الكسور الخارجية والأطراف الاصطناعية.

abi_at_rsp_amman_2_1200.jpg

العناية بالتفاصيل

كان بين المجموعة أول طفلة أراها، ولم تكن تتعدى الخمسة أعوام وكانت ترتدي قناع ضغط يغطي حروقاً شديدة في وجهها. علمت لاحقاً من يزن، وهو أخصائي العلاج الطبيعي المشرف عليها، بأنها أسقطت قدراً من الماء المغلي فوقها مما تسبب في حروق شديدة في وجهها والجزء العلوي من جسمها وذراعيها ويديها. فهذه الحوادث المريعة شائعة للأسف بين من يضطر للجوء إلى مخيمات مكتظة.

"وهذا ما يصدمني كلما التقيت بأحدهم هناك، حيث يحصل الجميع على العلاج وحيث تبنى الصداقات بين الناس الذين يتشاركون قصصهم مع بعضهم بعضاً وهم يحصلون على المواساة، بغض النظر عن منبتهم واختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم السياسية".

كما علمت أن قناع الضغط الذي رأتيه كان قد صمم خصيصاً في هذا المستشفى ليحل محل القناع السابق الذي كان يضايق الأطفال ويشعرهم بالخجل.

ومن أهم ما لمسناه خلال زيارتنا كانت تلك الاعتبارات الخاصة بمشاعر الناس والجهود التي تبذلها الفرق لتجعلهم يشعرون بالراحة.

ما كدنا ندخل حتى رحبت بنا الدكتورة إيف الأمريكية الأيرلندية اللطيفة التي تعمل مديرة طبية للمستشفى وتتمتع بسحر طبيعي.

قضت إيف ثمانية أشهر في إطار مهتمها التي تسغرق 12 شهراً في المستشفى، علماً أنها قضت معظم حياتها تعمل طبيبة تجميل حول العالم، لكن هذه أول مرة لها في وظيفة مكتبية. إذ اعتقدت أنها لن تطيق انتظاراً لدخول غرفة العمليات، غير أنها قالت لي بأنها تستمتع بالاستفادة من كل ما تعلمته خلال تلك السنين في منصبها الجديد.

لا فرق هنا

ما كدنا نبدأ جولتنا في المستشفى حتى عبرنا أمام لوحة جدارية جميلة مرسومة حديثاً.

فقد أتى رسام للحديث إلى عدد من المرضى حول بيوتهم ومجتمعاتهم. وها هو عمله الذي تمخض عن تلك الزيارة والتي ساعده فيه العديد من المرضى، يعبر عن كل تلك المجتمعات والثقافات.

تصور اللوحة خمسة أزهار تعبر عن خمسة بلدان: الياسمين من سوريا وغصن القهوة من اليمن والخشخاش من فلسطين والورد من العراق والسوسن السوداء من الأردن.

mural_rsp_amman_1_1200.jpg

قالت إيف بأن المرضى يدركون حين يعبرون الباب الذي يتوسط اللوحة بأنه لا فرق هنا.

وهذا ما يصدمني كلما التقيت بأحدهم هناك، حيث يحصل الجميع على العلاج وحيث تبنى الصداقات بين الناس الذين يتشاركون قصصهم مع بعضهم بعضاً وهم يحصلون على المواساة، بغض النظر عن منبتهم واختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم السياسية.

مقاربة شاملة

فيما كانت إيف تتجول بنا في طوابق المستشفى الخمسة، كنت مذهولة بمدى العناية بالتفاصيل في كافة المجالات من علم الأحياء الدقيقة إلى الصيدلية والجراحة وإعادة التأهيل الاجتماعي ودعم الصحة النفسية والعلاج الطبيعي والطباعة ثلاثة الأبعاد للأطراف الاصطناعية العلوية...

فالمستشفى يعتمد مقاربة شاملة، وهذا قد لا يكون نمط العمل الذي تُعرف به منظمة أطباء بلا حدود. ولهذا برأيي يتفرد هذا المستشفى عن غيره.

"فكل ما قرأته عن الفظائع التي أتت بهؤلاء المرضى لم يكن كافياً كي أستعد للواقع وأنا أتحدث إلى أناس مروا بالكثير وفقدوا الكثير".

لكن إعادة التأهيل لا تقل أهمية عن الجراحة دون شك، وهنا نقدم كليهما. وكما تقول إيف: ما الفائدة من الجراحة ما لم تكن مرتاحاً وأنت عائد إلى وطنك، كي ترجع للعمل وتتأقلم من جديد مع مجتمعك؟

أنشئت كذلك الصيف الماضي مدرسة للأطفال وغرفةٌ للأنشطة. وحالفنا الحظ خلال زيارتنا بحضور حصة كيمياء. فقد كان الأطفال متلهفين للتعلم وكانوا يعرفون عن الكيمياء دون شك أكثر مما أعرفه.

سمعنا قصصاً كثيرةً خلال اليومين اللذين قضيناهما في المستشفى: مرضى من العراق وغزة وسوريا واليمن، شباب ومسنون، جرحى حرب مروا بأكثر مما يسعني تخيله في حياتي.

فكل ما قرأته عن الفظائع التي أتت بهؤلاء المرضى لم يكن كافياً كي أستعد للواقع وأنا أتحدث إلى أناس مروا بالكثير وفقدوا الكثير.

dr_eve_medical_director_rsp_amman_square.jpg

جوانا

اعتنت جدتها بها وبأمها خلال الأيام التي تلك ما جرى، غير أن والدتها بقيت تنزف وكانوا مدركين أن عليهم الإسراع بها لتلقي العلاج الطبي. حملت جدة جوانا ابنتها على ظهرها وسارت حاملةً جوانا بين ذراعيها.

قتلت والدة جوانا خلال محاولة الفرار الثانية بنيران قناصة، وقد كنت أكاد أرى ما يحدث في عيني سليمة.

أخبرتها عائلتها وأصدقاؤها بأن من الأفضل لجوانا وضعها في دار أيتام، لكن سليمة قالت لي ’كيف لي أن أفعل هذا؟‘.

علاج جوانا

yazan_physio_and_joanna_25_square.jpg

أدى انفجار اللغم إلى إصابة جوانا إصابة شديدة في فخذها اليسرى، مما تسبب بتلف للأعصاب، كما أن قوة الانفجار أدت إلى إصابتها بناسور.

دفعت سليمة تكاليف عملية جراحية في العراق، لكنها كانت ترى أن حركة جوانا في رجلها وقدمها اليسرى لم تكن تتطور بشكل طبيعي مع تقدمها في السن.

أتت العائلة إلى مستشفى المنظمة في عمان في ديسمبر/كانون الأول 2018، قبيل أن تبلغ جوانا عامها الثاني. تخضع جوانا للعلاج الطبيعي بإشراف يزن تحضيراً لمزيد من العمليات الجراحية على رجلها وكاحلها.

جوانا طفلة خجولة لكنها بدأت تبتسم وتضحك بعد أن لعبنا سوياً ننفخ فقاعات الصابون. وآمل كما تأمل سليمة ألا تتذكر جوانا تلك المأساة التي مرت بها في صغرها.

إن سليمة وجوانا وكل من قابلتهم في المستشفى خلال تلك الأيام قد ألهموني بقدرتهم على الصمود. وإن كنا بحاجة إلى ما يذكرنا بالسبب الذي يدفعنا لفعل ما نفعله كأفراد من طاقم أطباء بلا حدود أو ممن يدعمونها، فما علينا سوى السير عبر أبواب هذا المستشفى.