تمرير

أهلاً بكم في العراق!

8 أكتوبر 2017
تدوينة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

ما من مدخلات لطيفة للمشروع الجديد الخاص بالطبيبة جورجي وولفريدج، من تاسمانيا، التي تعمل بمثابة طبيبة لدى منظّمة أطباء بلا حدود في قرية تلّ مرق بالعراق.

يقول لي ونحن نجتاز عتبة المستشفى: "لا بدّ من وجود حالة طارئة". وبعد سفري في خمس طائرات، وبعد 30 ساعة طيران في ما بين ثلاثة محيطات، وعلى مر سبعة أيام، وبعد 10 ساعات من الانتقال من وسيلة تنقّل لأخرى، وبعد حضور اجتماعات عدّة، وصلتُ أخيرًا إلى مستشفى تل مرق.

في الواقع، تكون الإحاطات من الأنواع كافة- من منسّقين على مستويات عدّة، واختصاصيين في مجال اللوجستيات، ومدراء، ومشرفين طبيين، واختصاصيين بأشكال مختلفة. وقد التقيتُ، في هذا الصباح، بالفريق الدولي الذي سأعمل معه، وبدا لي مشروعنا صلبًا للغاية.

"فإنّ هذا المشروع جميل، ووثيق الصلة بالموضوع، وقد تمّ توسيع نطاقه مؤخرًا، وهو، حتى الآن، هادئ نسبيًا".

وبعد أن أخذتُ ما قاله بعين الاعتبار، قلت في نفسي إنه لا بدّ من أنه يمازحني فقد قال إن ثمة "حالة طارئة" عوضًا عن دعوتي لـ"استراحة لاحتساء الشاي" (نعلم كلنا كم يمكن أن تكون استراحة احتساء الشاي طارئة!).

مع ذلك، تحولّت جولتي في المستشفى سريعًا إلى غرفة الطوارئ حيث لاحظت فجأة سيلاً من البذلات الخضراء، وذلك الجوّ المألوف للفوضى المنظّمة التي تجتاح أكثر عمليات الإنعاش استقرارًا حتّى. ورأيت أيضًا مريضًا مستلقيًا على الطاولة يحاول جاهدًا الموت.

ورأيت شخصًا يهزّ المريض على صدره ويتوسّل ذلك القلب بأن يخفق من جديد. ورأيت آخر واقفًا وهو يضخّ الهواء من خلال كيس إلى رئتي أحد المرضى اللتين تأبيان العمل، وتشبهان طفلاً عنيدًا. لا يخفى على أحد في الغرفة ما يحدث عندما يُحرم الدماغ من الأكسيجين لفترة طويلة. لذلك، وجدتُ نفسي وافقًا هناك وأنا أشاهد نقطة التحوّل من المعرفة النظرية إلى التطبيق العملي تُرسم أمام عينيّ.

مع ذلك، فالمعلومات المتوافرة شحيحة، مفادها بأنّ المريض ربما كان، عند دخوله المستشفى، مغمى عليه، وفاقدًا الوعي، ويعاني صعوبة في التنفس، ولديه تاريخ بمرض القلب. وتستمر محاولة إنعاشه، فيما يحاول الفريق الطبي إنقاذه كما لو كانوا يعملون على آلة منهكة.

وتمرّ الثواني والساعات. وجميع المعنيين يكدّهم العرق، وتنهمر قطرات العرق فترسم آثار ذلك القلق الكبير الذي يعتصر قلوبهم. أمّا الجو، فثقيل وتفوح منه رائحة الضغط النفسي والقيء، وهي رائحة نتنة وكريهة للغاية.

ويواصل الجميع مهمتهم الصعبة من دون كلل، ويثابرون عليها. فما من عامل صحيّ، إلا قلة قليلة، يستسلم بسهولة للموت. غير أن اليوم هو يوم آخر. بالنسبة إليّ، هو يوم أول آخر. هو يوم خميس آخر. وفي الساعة الثانية والدقيقة الثانية والأربعين من بعد الظهر أصبح هذا اليوم آخر يوم في حياة أحد المرضى. فقد ثبتت حدقتا عينيه وتوسّعتا، وصمتَ قلبه للمرة الأولى في حياته، وكفّت رئتاه عن المقاومة. قد غادر هذه الدنيا على الأرجح، حتى قبل أن تلامس جثته السرير.

إن معمودية النار لا تفي بالغرض. فما من شيء أكثر تناهيًا من الموت.

msf200288.jpg
العاملون الطبيون التابعون للمنظمة في غرب الموصل يعالجون المرضى. © جاكوب كون / أطباء بلا حدود

إنّ الشيء الوحيد الذي ينقص المريض أمامي هو علامات حياة. وفي وقت تغادر فيه الطاقة التي جعلته إنسانًا يشعر جسده، بقيت زوجته وحيدة ومتروكة في الرواق. فانطرحت أرضًا وهي تصرخ بشكل هستيري، وتغرز أظافرها في وجهها حتّى بدأت أنهر صغيرة من الدماء تمتزج بدموعها وتسيل على وجهها. أعجز عن فهم أي كلمة ممّا تقول، حتّى أنني لا أعلم ما إذا كانت تعول بالعربية أو الكردية، غير أن مضمون ما تقوله من دون أي أهمية. أهمّ ما في الأمر أنها منهارة.

يتوقّف الزمن الحالي، وهو عالق بشكل موقت في غمامة من الأدرينالين، وجوّ الغرفة ثقيل، قبل أن نواصل كلنا عملنا. فننظّف الجثة بشكل طفيف، علمًا منا بأن الموت يحتّم عادات تمت ممارستها والقيام بها في المنطقة، في السنوات الأخيرة. أمّا أنا، فأعبّر عن إجلالي بصمت، إلى جانب زميلتي التي ما انفكّت تهمس لذلك الرجل الذي كان حيًا بكلمتَي "آسفة" و"سامحني"، معربة عن احترامها للمريض الذي ترقد جثّته هناك بلا حياة.

ثمّ، انتقلنا بعدئذٍ إلى زوبعة من الإحاطات، والمصافحات، والأسماء، والابتسامات، والمبادئ التوجيهية، والمعلومات، فبدأ دماغي يجد صعوبة في التركيز لمجاراة كل ذلك. وبالنسبة إلى إحاطتي الأخيرة، دخلنا جناح الولادة الموازي، بعيد قدوم مولودة جديدة إلى هذه الأرض. وقد ولدت من امرأة وهي تصرخ صراخًا ناشزًا في خلال مخاضها، لتضمّ هذه المولودة صوتها إلى صوت والدتها، وتطلق بدورها صرخات الحياة. مكثتُ هناك، حابسًا أنفاسي، بصفتي عابر سبيل حياديًا يشاهد حلقة الحياة تلك تدور، وأنا مشدوه أمام هذه السرعة التي يزول بها الوجود، في حين تزداد هذه السرعة، حتّى بعد كل هذا الوقت.

في خلال عمر من المرات الأولى، وبعد أربع ساعات على وفاة ذلك المريض الأول، لقد دخل موته هذا قصة حياتي الاعتباطية. قد أكون أفكر بهذه الطريقة لا أكثر، أو أعاني اضطرابًا ناجمًا عن اختلاف التوقيت، غير أنني أرى أزهار عباد الشمس المائتة خلفي وكأنها تحني رأسها بإجلال عالمي. أهلاً بكم في العراق!