تمرير

ها هما يرقدان في الحديقة – الوقع المدمّر للاشتباكات في مدينة الموصل القديمة

16 أغسطس 2017
قصة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

كان أحمد* ابن الأربعة أعوام جالساً في حِجر والده، ووجهه ملطّخ بالتراب، خارج مستشفى أطباء بلا حدود غرب الموصل. التَهَم البسكويت الذي استلمه لِتوِّه، فغطّى وجهه بالشوكولاتة، وبدا أحمد، في تلك اللحظة، منشغلَ الذهن عن الفظائع التي نجا منها، بما فيها وفاة أخويه الاثنين. أمّا والده سمير، فكان يواسي جدّة الطفل الجالسة بجانبهما، ويساعدها لتشرب الماء، بينما ظهرت على شفتيها علامات الظمأ، وعلى وجهها ملامح معاناة العائلة كلّها.

قبل ذلك بساعاتٍ قليلة، هربت العائلة، في خضمّ الإشتباكات العنيفة والمميتة من مدينة الموصل القديمة التي ما تزال تحت الحصار، حيث كان المنزل الذي آواها على أطراف المعارك بين القوات العراقية وجماعة الدولة الإسلامية، والتي لوّثت المدينة بكثافة القصف، والهجمات الجوية، والعمليات الانتحارية، والألغام الأرضية يدوية الصنع، ورصاص القنّاصة. في هذا الصباح، استعادت القوات المتقدمة المنزل الذين كانوا يأتوونه، لكنّ الإغاثة جاءت متأخّرة.

"[قبل ثلاثة أيام]، كانت زوجتي تحمل ابننا عندما سقطت قذيفة هاون"، كما يروي سمير. "انهار حائط الغرفة المجاورة حيث كانت زوجتي وأختي موجودتين. لم أستطع دخول الغرفة مباشرةً، فعجزت عن التنفّس من كثرة الغبار والتراب. دخلتُ الغرفة عندما هدأ الغبار وبدأتُ أُنقّب بين الحجارة. سمعتُ صراخ زوجتي ثمّ عثرتُ عليهم، رفعتُهم ثمّ حملتُهم إلى الخارج. اكتشفتُ، عندما أزَلتُ كلّ الحجارة، أن ابني قد توفي. كان يبلغ من العمر شهراً واحداً وخمسة أيام".

img_0775.jpg
ويتم استقبال صبي بحروق واسعة على ذراعيه وساقيه بعد وصوله من الخطوط الأمامية في معركة مدينة الموصل القديمة.

وبينما يتكلّم سمير، تُلحِّن أُمّه المفجوعة قصّته بتنقّلها بين أنين الحداد ودموع الحسرة. وتقول باكية: "توفّيت حفيدتي جوعاً واضطررت لدفن حفيدي أيضاً. اثنان من أحفادي، الأولى جاعت حتى الموت والآخر أُصيب بقذيفة هاون. دفنتُهما في الحديقة. مرّت علينا ثلاثة أيام دون أن تصلنا المياه، وحتى المياه التي كنّا نشربها لم تكن جيّدة، فيصيبنا الإسهال كلّما شربناها. في رمضان تضوّرنا جوعاً... لم يكن مسموحاً حتى أن نأكل من القمامة".

تنام اليوم زوجة سمير في سرير المستشفى مرتديةً دعامة العنق، وأُخته في الجانب الآخر من الجناح. يأتي الصباح، ويتحضّر الطاقم الطبّيّ لمزيد من المرضى، بينما تُسمَع أصوات الإنفجارات القادمة من خطوط الجبهات. كان اليوم السابق أكثر أيام المستشفى انشغالاً منذ افتتاحها منذ أقلّ من عشرة أيام. أقبل المرضى في سيارة إسعافٍ تِلوَ الأخرى: صبيٌّ تغطّي الحروق يديه وقدميه، وسيّدة تبدو عليها الصدمة ويلطّخ الدم وجهها، وفتاة ترتدي فستاناً تنقشه الزهور يُزيّن رجلها اليسرى التي تخترقها الشظايا ورجلها اليمنى المبتورة عند الركبة. وهكذا، تدفَّق الجرحى، وبغالبيتهم نساء وأطفال، إلى المستشفى قادمين من خطوط المواجهة.

تحوّلت غرفة الطوارئ إلى شاهدٍ على الفظائع التي خلّفتها المعارك لدى سكّان الموصل، فقد أخبرت طفلة صغيرة أحد أفراد الطاقم كيف شاهدت أخاها يموت أمام مرأى عيناها. امتلأ هواء المستشفى بأصوات البكاء، وصرخات الألم والرعب، وتنهّدات الارتياح بعد الهروب أخيراً. وأفراد الأسرة المرافقين للجرحى بدت قصص المشقّة على وجوههم: وجناتٍ تعاني من سوء التغذية، نظراتٍ خاوية، عيونٌ باكية، وأجساد مغطّاة بالدم والتراب. توقّفت إحدى النسوة في غرفة الانتظار عن البكاء كي تُفرغ علبة العصير، ثم استكملت بكاءها. والصبي الصغير الذي تغطّي الحروق أطرافه تمكّن من تناول البسكويت، حتى عندما كان يلويه وجع التنظيف اليدوي للحروق.

dsc049732.jpg
وقد وصلت هذه الطفلة إلى مستشفى منظمة أطباء بلا حدود في غرب الموصل من الخطوط الأمامية حيث انبترت ساق واحدة من الركبة جراء انفجار وأخرى مزقتها الشظايا.

"جوع وعذاب"، تقول امرأة كبيرة في السن من على سريرها في غرفة الطوارئ وتردّدها مراراً وتكراراً. تبلغ من العمر أربعة وسبعين عاماً، وتبدو عليها علامات الصدمة بعد مرور ساعات قليلة على فرارها من منطقة القتال. وتقول أيضاً: "حاولنا إقناع الأطفال بأن يأكلوا معجون الطماطم، وكنّا نغلي الطحين في المياه.. الأرز المتوفّر كان فاسداً جداً، حتى الحيوانات لم تكن لتأكله". وتضيف: "كنّا نموت كلّ يوم جراء القصف والضربات الجوية، ولم نكن نعرف وجهة مصدرها. لقد فقدتُ نصف وزني، واحتوت جلودنا على كلّ أنواع الأمراض لأنّنا نادراً ما كنّا نستحمّ".

إن مرفق أطباء بلا حدود هو واحد من مستشفيين فقط يعملان في المنطقة، والأولوية الأولى فيه هي المساعدة المنقذة للحياة. يعمل المسعفون على إخلاء الأسرّة إفساحاً للوافدين الجدد عبر إحالة المرضى الذين تستقرّ حالتهم إلى مستشفيات أخرى لمتابعة العلاج. وبالرغم من تدفّق المرضى المصابين جراء الحرب، إلّا أنّ الوافدين ما هم إلّا جزء صغير من آلاف السكان المُحاصرين بالاشتباكات. وتتخوّف المنظّمة من أنّ الحالات الطارئة تموت في ساحات المعارك من شدّتها، غير قادرين على الوصول إلى المساعدة الطبية.

لحسن حظّ عائلة سمير، كانت زوجته وأخته ضمن الأفراد الذين تمكّنوا من الوصول إلى المستشفى، وسوف تتم إحالتهما إلى مستشفى آخر حتى تستكملا العلاج. لكنّ بعض الندوب لا تختفي؛ فكان لسمير وزوجته ثلاثة أولاد لم يبقَ منهم إلّا واحد على قيد الحياة. تصعد العائلة تلو الأخرى على متن سيارة الإسعاف، بلا نقود ولا ممتلكاتٍ غير اللباس الذي يكتسونه، ويستلقي أحبّاؤهم على النقّالة. وبعد وصول الإسعاف إلى المستشفى بقليل، تغادر مرّة أخرى كي تصطحب جرحى آخرين من أرض المعركة.

لكنّ العديد من سكّان مدينة الموصل القديمة لا يزالوا عالقين في رحِم المأساة، وفي ظلّ استمرار حصار المدينة الذي يحدّ من إمكانية وصولهم إلى سيارة الإسعاف.


منذ افتتاح مستشفى منظمة أطباء بلا حدود في غرب الموصل، قدّمت المنظمة المساعدة الطبية إلى أكثر من 200 مريض يعانون من إصابات بالغة وغيرها من المشاكل الطبية. يوفّر المستشفى الخدمات لجراحية لجرحى الحرب وحالات الولادات القيصرية الطارئة والرعاية التالية للجراحة قصيرة الأمد والأمومة وغرفة الطوارئ، كما يشمل غرفة تستوعب تدفقات الإصابات الجماعية مخصصة لفرز المرضى.

على وجه العموم، توفّر منظمة أطباء بلا حدود الرعاية الطبية للأشخاص المتأثرين بأزمة غرب الموصل في ثمانية مشاريع داخل المدينة وحولها.

توفّر منظمة أطباء بلا حدود الرعاية الطبية المحايدة وغير المتحيزة بغض النظر عن العرق والدين والجنس والانتماء السياسي. وبهدف ضمان استقلاليتها، لا تستقبل منظمة أطباء بلا حدود أي تبرعات من أي حكومة أو وكالة دولية لتنفيذ مشاريعها في العراق، بل تعتمد فقط على التبرعات الفردية من عامة الناس حول العالم للقيام بعملها.

*تمّ تغيير أسماء المرضى حفاظاً على سرّيّة هويّتهم.