تمرير

أفغانستان: أختي، سأعتني بكِ

16 أكتوبر 2018
قصة
الدول ذات الصلة
أفغانستان
شارك
طباعة:

عملت طبيبة التوليد البلجيكية الدكتورة سيفيرين كالووايرتس في مستشفى الأمومة التابع لمنظمة أطبّاء بلا حدود في خوست في شرق أفغانستان تسع مرّات في السنوات الستّ الماضية. وشهدت سيفيرين على ولادة أوّل طفل في الجناح وتواجدت أيضًا هناك عند بداية هذا العام حين احتفل الطاقم بإنجازه مئة ألف عملية ولادة في ربوعه. وتذكر صباح ذاك اليوم حين أُحضرت إلى المستشفى امرأة لا تستجيب وتنزف بغزارة.

msf244110_medium.jpg
يعتبر مستشفى الأمومة الذي تديره أطباء بلا حدود الخيار الأول للأسر للولادة الآمنة.

"وصلَت إلى المستشفى بعد أن أنجبت طفلها الحادي عشر في المنزل. راحت تنزف خلال الليل وكانت المشيمة ما زالت عالقة بداخلها. كان يُفترض أن تتلقى الرعاية الطبيّة قبل ساعات على بدء النزيف ولكن السفر خلال الليل اتّسم بخطورةٍ كبيرةٍ ولم يتوفر أمام عائلتها سوى خيار الانتظار لساعات إضافيّة حتّى بزوغ ضوء النهار لتنقلها إلى المستشفى.

وبينما كانت تُنقل بسرعة عبر أبواب المستشفى شاحبةً ومنقطعة النفس، ألقيتُ نظرةً عليها وفكّرت بأنّها سبق ولقيت حتفها. ولكن مع ذلك، توجّب علينا محاولة إنقاذ حياتها.

أدخلناها بسرعة إلى غرفة الإنعاش – لم أشعر بنبضها وكان ضغط دمها غير موجود. حاولنا إنعاشها، وكنتُ أنوي التوقّف بعد 20 دقيقةً بما أنّ ما من منفعة من ذلك؛ إذ أنّها سبق وفارقت الحياة.

وظننتُ في قرارة نفسي أنّ الأمر محزن للغاية؛ ستموت بين يدَي تاركةً خلفها 11 طفلًا. عندما تتوفى والدة، لا تفقد حياتها وحسب، بل يترافق ذلك مع تشتّت حياة أطفالها وحياة زوجها. يتأثّر الجميع بما أنّ المرأة وبالأخصّ الوالدة لها تأثير كبير على العائلة.

ثمّ فجأةً، ظهر نبض ضعيف للغاية. نقلنا إليها الدم مرّة ثم مرّة ثانية وثالثة حتّى وصل العدد إلى أربعة. وبدأ حينئذٍ ضغط دمها بالارتفاع فنقلناها بسرعة إلى غرفة العمليات. كانت تنزف بغزارة فلم يكن أمامنا خيار سوى استئصال رحمها.

msf244127_medium.jpeg
هنالك قاعتا عمليات في المستشفى، حيث تجري طواقم أطباء بلا حدود الجراحات الولادية الطارئة المنقذة للحياة.

بدأت وبأعجوبة تتحسّن حالتها، ثمّ استقرّت. تباطأ النزيف ثمّ توقّف. أعطيناها 10 وحدات دم لنُبقيها على قيد الحياة.

عادت إلى منزلها بعد خمسة أيّام وما زلت لا أصدّق ما حدث. لم أظنّ يومًا بأنّها ستنجو، ولكنّها بالفعل نجت – إنّها امرأة مناضلة كالكثير من النساء اللواتي قابلتهن في أفغانستان.

وقصة هذه المرأة مألوفة جدًّا في خوست. تحصل المعجزات كل يوم في جناح الأمومة التابع لمنظمة أطبّاء بلا حدود. عدتُ تسع مرّات للعمل في المستشفى منذ أن فتحنا أبوابه في العام 2012 ويحتلّ مكانةً عزيزةً في قلبي.

شهدتُ على ولادة أوّل طفل فيه والآن تزورنا 2,000 امرأةٍ كل شهر ليُنجبن هنا. حتّى أنّنا احتفلنا في وقت سابق من هذا العام بإنجاز مئة ألف ولادة فيه. إنّه مستشفى الأمومة الأكثر ازدحامًا في العالم بين المستشفيات التابعة للمنظمة.

msf244115_medium.jpg
يعمل مستشفى خوست بما يقارب ضعف قدرته التشغيلية الأساسية، فأحياناً يكون هنالك 10 نساء بعضهن يعانين من مضاعفات أثناء الولادة، وفي الوقت نفسه يكون هنالك 20 امرأة أخرى في مراحل مختلفة من المخاض في ممر جناح الولادة.

مستشفى للنساء، تُديره النساء

لا تزال أفغانستان تُعتبر واحدة من أخطر الأماكن في العالم للإنجاب فيها. عندما أتت منظمة أطبّاء بلا حدود أوّلًا إلى ولاية خوست، اكتشفنا أن الكثير من النساء والأطفال يموتون بلا داعٍ، بكلّ بساطة لأنّهم عاجزون عن الحصول على الرعاية الطبيّة التي يحتاجون إليها. وعانت الولاية في العام 2012 من نقص حادّ في الموظفين المؤهلين وماتت الأمهات والأطفال من أمراض وحالات كان من الممكن الوقاية منها وتجنّبها.

عندما فتحنا أوّلًا، وصل عدد الولادات إلى 15 يوميًا. ثمّ سرعان ما بدأ يرتفع ليصل إلى 30 ثمّ إلى 50. والآن، خلال الأيّام الأكثر ازدحامًا، يستقبل المستشفى 100 امرأةٍ لتلد فيه.

ولكنّ منظمة أطبّاء بلا حدود تقدّم ما هو أكثر من مجرّد رعاية مجانية عالية الجودة للنساء الحوامل والأطفال في خوست. هي تقدّم مستشفى للنساء تُديره النساء. فتتألّف معظم طواقمنا من النساء وهو أمر مهمّ للغاية في هذا القسم من أفغانستان حيث يتمّ الفصل بشكل صارم بين الجنسَين وهو أمر يجب العمل به أيضًا وبالأخصّ في جناح الأمومة.

منذ اللحظة التي تطأ أقدامهن المستشفى، نودّ أن يشعرن بالراحة. إنّه مكان تعرف فيه العائلات أن زوجاتهن وأمهاتهن وأخواتهن وبناتهن سيكنّ بأمان. تشعر زميلاتنا الأفغانيات بأنّهن مسؤولات عن المريضات ويعاملنهن وكأنّهن أفراد من عائلاتهن. ويقلن أمورًا على سبيل: "مرحبًا أختي، سأعتني بكِ". والمريضات في كثير من الأحيان هنّ فعليًا أفراد من عائلات الموظفات لدينا بما أنّ هؤلاء الموظفات يشجعنّ أخواتهن وقريباتهن على المجيء إلى المستشفى لوضع مواليدهن.

يهيمن على الجناح حسّ الانفتاح: يمكن للنساء أن يخلعن البرقع وأن يُظهرن شعرهن ويتسنى لهنّ أيضًا إرضاع أطفالهن. ويحصل ذلك كلّه نتيجة عدم وجود رجال في الجناح: هنا، تعتني النساء بالنساء.

msf244119_medium.jpg
المستشفى دائم النشاط والحركة، ولا تجد فيه المرضى فقط بل أيضاً الجدات والحموات وغيرهن من قريبات النساء اللاتي يرافقنهن أثناء مكوثهن في المستشفى.

إن نثرت البذور، تحصد الأزهار

تُعتبر منظمة أطبّاء بلا حدود أيضًا واحدة من أكبر أصحاب العمل الذين يوظفون النساء في خوست: نحن نوظّف حوالى 430 شخصًا، غالبيتهم من النساء، والكثيرات منهن لم يعملن سابقًا. سبق ووظّفنا نساء عملنّ كعاملات تنظيف وممرضات وقابلات ومربيات وطبيبات.

لدى الكثير من الموظفات لدينا عائلات تقدّم في أغلب الأحيان الرعاية الأساسية، ولذلك لا يضطررن إلى التوقف عن العمل. وفتحنا كذلك حضانة في المستشفى حيث يتمّ الاعتناء بالأطفال مجانًا. إنّه أمر رائع بالنسبة إلينا لأنّنا نحتفظ بهذه الطريقة بالموظفات الأكثر قيمة، ولكنّه أيضًا يوفّر للنساء فرصةً الاستمرار بالعمل حتّى إن كان لديهن أطفال صغار يجب أن يعتنين بهم.

تتوق الكثير من الموظفات لدينا إلى تعلّم مهارات جديدة واكتساب المؤهلات: فتصبح القابلات طبيبات، وموظفات الاستقبال قابلات، وعاملات النظافة موظفات استقبال. ولهذا السبب أعتبر العودة إلى هنا أمر رائع: أرى الطبيبات اللواتي علّمتهن إنجاز العمليات القيصرية وهن يفعلن ذلك بأنفسهن بكل ثقة بعد عام فقط من دون الحاجة إلى أي مساعدة. إن نثرت البذور، ستحصد الأزهار باستمرار.

msf244116_medium.jpg
بعد الولادة تستريح الأمهات مع مواليدهن في قسم الرقود. وفي بعض الأحيان التي يكون فيها ازدحام شديد تجد أُمَّانِ وطفلانِ (وربما أكثر إن كان هنالك توائم) في السرير الواحد.

إنقاذ الجميع أمر مستحيل

بالرغم من الجهود التي نبذلها، إلا أنه لا يسعنا إنقاذ الجميع. ويُعتبر ذلك من أصعب الأمور حيال العمل في خوست. خلال فترة عملي الأخيرة هنا، شهدت على وفاة ثلاث نساء إمّا في المخاض أو نتيجة مضاعفات مرتبطة بالولادة.

أتت إحدى النساء، والتي لن تفارق صورتها ذاكرتي مهما حييت، إلى هذا المستشفى في شهر مايو/أيّار من هذا العام. أذكر التاريخ بالتفصيل لأنّه اليوم الذي توفيت فيه جدّتي.

تلقيتُ اتصالًا في مساء ذاك اليوم عند الساعة 9:30 من إحدى زميلاتي الأفغانيات اللواتي يعملن في نوبة ليلية في المستشفى. أُحضرت آنذاك سيدة حامل إلى المستشفى تعاني ممّا ظنّوا أنّه نوبة ربو حادّة. وكانت في الشهر السابع أو الثامن من الحمل وتتوقّع إنجاب ثلاثة توائم.

كانت تعاني من قصور القلب. لم يكن يضخّ كمية أكسجين كافية عبر دمها. عندما وصلتُ لأراها، كانت تختنق.

أعطيناها أدوية لقلبها وطلبنا طبيبة التخدير. كان علينا إخراج أطفالها من خلال عملية قيصرية قبل أن نبدأ الإنعاش. وكان نقلها إلى غرفة العمليات إجراءً خطيراً للغاية – إذ أنّها قد تلقى حتفها في أي لحظة. وكان اتّخاذ القرار صعبًا للغاية – أشبه بالاختيار بين الكوليرا والطاعون.

قررنا أن نجعل أولًا حالتها تستقرّ ونحاول نقلها إلى غرفة العمليات بعد ساعة في حال وافقت العائلة على العملية القيصرية. خرجتُ لأناقش الخيارات مع زوجها وحماتها.

وبينما كنت أشرح الوضع، أُصيبت بسكتة قلبية. وبما أنّ أطفالها كانوا ما زالوا على قيد الحياة، كان علينا أن نُجري العملية بأسرع ما يمكن، ولكن لم يكن من وقت كافٍ لنقلها إلى غرفة العمليات.

أجريتُ العملية وأنا أنتعل خفًّا - تخيّلوا مدى سرعة الأحداث عندئذٍ. أخرجنا التوائم الثلاثة ولكنّ والدتهم توفيت في غرفة الولادة. حاولنا جاهدًا إنقاذ الجميع.

عاش أوّل طفلين نصف ساعة وصليت لينجو الثالث كي ينجم عن هذه المأساة أمر إيجابي. ولكنّ الطفلة توفيت بعد 36 ساعةً.

لن أنسى بتاتًا اللحظة التي أدخلنا فيها الزوج ليرى زوجته. انهال بالبكاء فوق جثتها، وكان جميع من حولي يبكي وبكيت بدوري أيضًا.

ولكن لحسن الحظ هذه اللحظات نادرة الحصول. معظم النساء اللواتي يقصدن المستشفى يخرجن بصحة جيّدة ويحملن أطفالهن الرائعين في أحضانهن.

msf244137_medium.jpg
في أفغانستان تواجه النساء الكثير من الضغط لكي تحملن، ولكي تحملن بسرعة بعد الزواج. أدى هذا الوضع إلى إساءة استخدام أدوية الخصوبة التي يمكن شراؤها من السوق بدون وصفة طبية.

أمل للمستقبل

غيّر عملي في خوست حياتي. شكّل امتيازًا حقيقيًا حظيت به لأرى الجوانب الجميلة من الثقافة الأفغانية. قابلت بعضًا من أروع النساء وأكثرهن قوةً، نساء يحاولن إحداث تغيير في مجتمعهن. لدينا جميعنا الكثير من القواسم المشتركة، أكثر من كل اختلافاتنا. شعرتُ بذلك في أفغانستان أكثر من أي وقت مضى.

أشعر بفخر كبير حيال العمل الذي تُنجزه منظمة أطبّاء بلا حدود في خوست: يبعث المستشفى الأمل الحقيقي في المجتمع، ويقلّل عملنا في أرجاء البلد من عدد وفيات الأمهات والأطفال خلال الولادة.

ولهذا السبب ربّما تُطلق الكثير من النساء على بناتهن اسم "هيلا". يعني "الأمل"؛ أمل بمستقبل أفضل، لأفغانستان وللأطفال وللنساء. ولأنّ الجميع مفعم بالأمل، أنا أيضًا آمل أنّ تتحسّن الأوضاع يومًا ما. ربّما لم يحن الوقت بعد ولكن ذلك سيحصل يومًا ما. ما زال الأمل حيّ بداخلي."

الرسومات بريشة: أوريلي نيريت/The Ink Link/أطباء بلا حدود