تمرير

السلفادور: أن تراقب وأن يراقبك "الفتية" أعضاء "إم إس 13"

16 أكتوبر 2018
قصة
الدول ذات الصلة
جمهورية السلفادور
شارك
طباعة:

السلفادور، أمريكا الوسطى، 12 يوليو/تموز 2018، الساعة 8:30 صباحاً

"مارا سالفاتروتشا 13" المعروفة اختصاراً بـ"إم إس 13" هي أكبر عصابة وأكثرها تنظيماً في السلفادور. تقع إحدى مقارها في لاس غويرنالداس الذي هو حيّ مكتظ سكانياً يتبع لبلدية سويابانغو، وبالتالي يعد من أكثر المناطق الحضرية خطورةً في هذا البلد الواقع في أمريكا الوسطى. فمن المعروف أن المرء لا يمكن أن يمزح مع "الفتية".

أنا اليوم في غويرنالداس لإجراء تقييم مجتمعي ميداني وزيارة مريضين في منزليهما برفقة زميل لي. تشير الساعة إلى الثامنة والنصف صباحاً وحتى الآن يبدو وكأننا في يوم عمل عادي تحت سماء زرقاء تلفنا نسمة عليلة. ها هم الناس يعبرون الحديقة الرئيسية المكتظة لدرجة أن أكتافهم تصطدم ببعضها البعض الآخر. دعانا أحد زعماء المجتمع ويدعى دون ألفارو لاحتساء فنجان من القهوة برفقته في فناء داره الذي يطل على الحديقة. قيل لنا أن الفرق الطبية تلتقي أيضاً في فناء داره كل اثنين.

يقول دون ألفارو بأنه يطحن قهوته بنفسه لأن تلك التي تباع في المحال التجارية لا تروق لمعدته. تقوم زوجة دون ألفاور السيدة نينيا 1 خوليتا بتحضير القهوة وإضافة خليط من القرفة إليها. يعد شرب فنجان من القهوة طقساً لا بد منه بين السلفادوريين، وقد يرى البعض أن رفض دعوةٍ لاحتساء فنجان من القهوة في بيت أحدهم بمثابة قلة احترام.

القط والفأر

إنها الساعة التاسعة إلا عشر دقائق وكل شيء يبدو هادئاً. تحمل النساء أطفالهن على أذرعهن، ويتمشى العشاق يداً بيد، فيما يمشي بعض الناس وحيدين. ونحن نحتسي القهوة مع دون ألفارو فيما نتحدث حول خطط التوعية للأشهر المقبلة. فجأة يظهر ستة فتية على بعد 20 متراً منا وقد بانت أسلحتهم تحت قمصانهم المزركشة. إنهم مسرعون وقد اضطربت ملامحهم وبان التيقظ والحذر جلياً على وجوههم. فهم يسيرون جيئة وذهاباً حاملين هواتفهم وسماعاتهم ويتحدثون عن تواجد "الكلاب" 2 في المنطقة. يهرعون من مكان إلى آخر كي ينتشروا، وحتى حين يتوقفون لبرهة فإن مكالماتهم الهاتفية تستمر.

ينظر دون ألفارو إليهم ويرمقهم بنظرة متحفظة فيما يرتشف قهوته وكأن شيئاً لم يكن. نراقب تحركاته، ولا يبدو هو وزوجته خائفين ولهذا نسير على خطاهم ونتابع شرب قهوتنا والحديث عن خطط المشروع. يمرّ الفتية الستة بنا وينظرون إلينا ثم يمضون. لا يبدو الخوف ظاهراً على أي ممن كانوا في الحديقة، لكن من الواضح أنهم حذرون. فلعبة ’القط والفأر‘ هذه من الأحداث اليومية التي يعيشها "الفتية" مع الشرطة التي لا تكف عن مطاردتهم.

msf241904_medium.jpg
تقدم طواقمنا خدمات الرعاية الصحية الأساسية والصحة النفسية في مناطق المدن المتضررة من مستويات العنف المرتفعة.

العنف عندما يغدو أمراً طبيعياً

"جولة جديدة من الإعجاب بالدم: ليس الانبهار بالوحشية ولا الحداد أو رفض بربرية الموت غير المتوقع، إنما الاحتفال والاستمتاع بذلك".

الحياة بوجود "الفتية" تعني العيش تحت جنح الموت، وشعارهم "شاهد واسمع وأقفل فمك". فالناس في هذا البلد يفهمون المعنى البليغ لهذه الكلمات الأربعة البسيطة... أجل إنها مجرد أربع كلمات بسيطة. لا أحد يندهش بأفعال "الفتية" إلا أن الناس في هذا الحي يشعرون حقاً بالخوف. ورغم رؤية "الفتية" يركضون في الشوارع الضيقة والأزقة كل يوم، غير أن الناس يعيشون حياتهم، فالأطفال يسيرون إلى المدارس والناس يذهبون إلى الأسواق والمحال التجارية ويستقلون الباصات للذهاب إلى أعمالهم وتجدهم يتخالطون قدر المستطاع. فهذه حياتهم.

لقد تعلم الناس هنا كيفية البقاء على قيد الحياة في ظل الجماعة الأكثر عنفاً في أمريكا الوسطى من خلال سعيهم لتجاهل أفعالها. فقد تعلموا بناء آلية دفاعية تقوم على التعايش مع العنف. لكن إلى أي مدى يكون فيه انسلاخهم عن الخوف والألم نتيجةً لآلية دفاع مزيف عن الذات؟

***

نظرت إلى الساعة وكانت تشير إلى التاسعة والنصف صباحاً. "الفتية" يسرعون من مكان إلى آخر ويبدو عليهم شيءٌ من الاضطراب. تجدهم يضحكون وكأنهم يسخرون من شيء أو شخص ما، كما لا تتوقف الاتصالات بينهم. نتابع حديثنا مع دون ألفارو الذي كان يتصرف دون أن يبدو عليه الجزع أو الدهشة. فهو يدرك أنه طالما لا ’يزعجهم‘ فإن "الفتية" لن يتحرشوا به حتى لو كانوا على بعد ثلاثة أمتار عنه.

إنها الآن العاشرة صباحاً. أنهينا قهوتنا وقد حان وقت الرحيل. نستودع دون ألفارو وزوجته ثم نتوجه إلى الجزء الذي يدعوه أهل الحي المنطقة "الأخطر" 3. فبالكاد تجد أياً منهم يرغب في عبوره خشية أن يتعرض لهم "الفتية". وها نحن ذاهبون إلى هناك لزيارة مريضين في بيتيهما.

msf241905_medium.jpg
تقيد الحدود غير المرئية التي تضعها العصابات المختلفة والصدامات المستمرة مع قوات الأمن قدرة الناس على التنقل وتحول بينهم وبين الوصول إلى المراكز الصحية أو المستشفيات.

السير عبر الحي

"إن ’هورا‘ 4 قادمون، ’هورا‘ قادمون"، يصيح "الفتية" بانفعال على الهاتف.

وفيما نسير على طول الطريق الرئيسية نرى أناساً خلف أبوابهم المقفلة خوفاً من أن يركض "الفتية" ويدخلوا بيوتهم للاختباء بها من الشرطة. إذ أن من يرفض أن يدخلهم بيته قد يكون مصيره الموت أو الإكراه على ترك بيوت أهاليهم وهي أغلى ما يملكون.

بما أننا نزور الحي منذ أشهر فإننا بدأنا نتعرف على وجوه "الفتية" لكن يبدو أنهم يميزوننا بشكل أسهل. فعملهم بالطبع هو بسط سيطرتهم على منطقتهم ومعرفة ما يجري والتعرف على جميع الناس، كل ساعة من كل يوم. أحياناً نحيي بعضنا عن قرب ونتصافح أو من بعيد. لكن عددهم اليوم أكثر من المعتاد. يمكننا أن نميّز بعضاً منهم لكن الجو مشحون ومتوتر، إذ يبدو أن الشرطة تسير في الجوار. لا نتوقف عن الخوف لكننا نأخذ حيطتنا. حيث نسير في شوارع أو أزقة بديلة رافعين أيدينا دون أن نقوم بأية حركة مفاجئة. نرى "الفتية" وهواتفهم في أيديهم يتراكضون والاضطراب والتيقظ بادين على وجوههم.

انتصف النهار الآن وقد أتممنا زيارة مريضينا في بيتيهما وها نحن نسير عائدين إلى الحديقة للعثور على سائقنا. نمشي بين الأزقة والأكشاك المتداعية التي تبيع التورتيا 5. نرى من بعيد فتى يراقب المنطقة بحثاً عن الشرطة وتجنباً للمفاجآت. طوله حوالي المتر و60 سنتيمتراً، وهو نحيل البنية وداكن البشرة وعمره حوالي 19 عاماً. كما أنه حليق الرأس والذقن ويرتدي حلقتين فضيتين في أذنيه على شكل صليب وقميصاً أسود فضفاضاً وسروالاً قصيراً لونه بيج وحذاءً رياضياً أسود. أشعر وكأنه سيوقفنا. نمر أمامه ونلقي بالتحية، غير أنه يحدق بنا ولا ينبس ببنت شفة. لكن فجأة أسمع صوته خلفي ينادي:

- أنت يا "تشيليه" 6 تعال إلى هنا! (كانت نبرة كلامه تدل على صيغة الأمر). إذ قالها بصوت ثابت إنما ينم عن الاحترام، لكنه بقي جالساً ومرتاحاً نسبياً فيما كانت عيناه تراقبان كل شيء دون أن تصدر أية حركة مفاجأة من رأسه.

ها أنا أقترب منه فيسألني ماذا نفعل ومن نحن. (لاحظت بأنني لم أر هذا الفتى من قبل). أخبره بأننا نعمل لصالح أطباء بلا حدود وهي مؤسسة طبية إنسانية تعمل في أكثر من 70 بلداً حول العالم، وبأننا نعمل الآن في حيّه. كما أطلعه على مبادئنا وأؤكد له أن لا صلة تربطنا بأية جهة حكومية أو جهاز شرطة أو جيش (من المهم جداً ذكر هذا كي نبقى بأمان). أوضح له أن بإمكانه وزملاءه وأسرته تلقي خدمتنا الطبية كلما كانوا بحاجة إليها وبأنها مجانية وسرية تماماً. فيما أطلعه على كافة المعلومات المهمة، ألاحظ بأنه يتفحصني من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي. قرأ بطاقة هويتي التي تبلغ أبعادها 15 × 10 سم والمعلقة بشكل واضح على صدري (اختير هذا الحجم الكبير لسهولة التعريف).

- وقال: "كل شيء على ما يرام يا ’تشيليه‘.حسن، لا بأس. أردت فقط أن أعرف بأنك قادر على القيام بعملك هنا دون مشاكل، طالما أنك تفعل ما تقول. حسن، لا بأس".

نتابع سيرنا باتجاه الحديقة الرئيسية التي بدأنا منها يومنا حيث سيكون السائق بانتظارنا. العيش والعمل في غويرنالداس يعني أن عليك ممارسة فن "أن تراقب وأن تراقَب" كي تبقى على قيد الحياة.

msf241906_medium.jpg
تعمل أطباء بلا حدود في السلفادور مجدداً ولديها مشاريع في كل من سان سلفادور وسويابانغو.

اسمي سانتياغو وأنا عامل اجتماعي/أخصائي علم نفس مع أطباء بلا حدود، وعمري 32 عاماً. يتكون فريقنا المجتمعي من شخصين في لاس غويرنالداس.

استأنفت منظمة أطباء بلا حدود عملها في السلفادور وتحديداً في منطقتي سان سلفادور وسويابانغو حيث يعيش الناس في جو من الخوف ويشهدون مستويات كبيرة من العنف كل يوم. ونظراً لخوف الناس من مغادرة بيوتهم فإنهم يجدون صعوبة في الحصول على الخدمات الطبية، ولهذا نقوم بزيارات منزلية منتظمة لتوفير الرعاية الصحية النفسية لمن يحتاج إليها.

***

الحواشي

  1. في السلفادور، كلمة "نينيا" تسبق اسم المرأة للتعبير عن الاحترام أو الإشارة إلى كبر السن، مثال: نينيا أنيتا.
  2. واحد من مصطلحات عديدة تستخدمها العصابات للإشارة إلى الشرطة.
  3. مصطلح يشير إلى مستوى عالٍ من الخطر أو حادثة عنف وقعت مؤخراً قامت خلالها عصابة معادية أو قوات أمنية بالرد.
  4. مصطلح بالعامية يشير إلى الشرطة.
  5. التورتيا المصنوعة من الذرة جزء من الطعام في السلفادور، فهي تماثل الخبز وتجدها على موائد الغداء والعشاء كما أن بعض الناس يتناولونها صباحاً على الفطور.
  6. كلمة سلفادورية تشير إلى شخص أبيض البشرة أو تستخدمها العصابات للإشارة إلى معنى صديق.
(تم تغيير أسماء الأشخاص والأماكن لأسباب تتعلق بالسلامة)