تمرير

ابتسامة أب

14 يونيو 2017
تدوينة
الدول ذات الصلة
جنوب السودان
شارك
طباعة:

توقف سائقنا، إلايجاه، بسيارة أطباء بلا حدود أمام المستشفى التابع لوزارة الصحة في بنتيو. نحن هنا لاستلام طفل كنت قد أحضرتُه في الصباح ليتم إجراء نقل دم له. ففي مركز التغذية العلاجية ليس لدينا مختبر، والاختبارات الوحيدة المتوفرة لدينا هي الاختبارات السريعة التي تتم بجانب سرير المريض كجلوكوز الدم والملاريا والكالازار (وهو مرض طفيلي يحدث على شكل تفشيات في هذه المنطقة)، والزهري وخضاب الدم. نسبة خضاب الدم المنخفضة هي أمر شائع بين الأطفال في العيادة بسبب مجموعة من عوامل عديدة تشمل التغذية غير الكافية وتكرر الإصابة بالملاريا والإصابة بالدودة الشّصِّية التي تؤدي إلى فقدان دم مزمن في المعي.

عندما نشاهد طفلاً بمعدل خضاب دم دون الثمانية في بلدنا نبدأ بالقلق الشديد، أما هنا فالأطفال بشكل عام اعتادوا على فقر الدم المزمن، ويمكن لنا أن نغض الطرف عن مستويات خضاب الدم المنخفضة. لكن أحياناً تكون النسبة منخفضة جداً ويعاني الطفل من قِصر النفس وتسارع نبضات القلب وحتى بعض الفشل القلبي حيث يجد القلب صعوبة في الحفاظ على تشغيل أعضاء الجسم.

ماري* ذات الأربعة الأعوام أُدخِلت إلى المركز قبل بضعة أيام وهي تعاني من سوء التغذية الحاد. وأثناء فحصها لاحظت شحوباً تحت جفنها الأدنى وطلبت من أحد الممرضين أن يفحص خضاب دمها. وكانت نتيجة الفحص 3.5 (بينما يجب أن تكون فوق العشرة). كان من الواضح أن فقر الدم يسبب لها بعض المصاعب لذلك كان معدل التنفس وضربات القلب لديها مرتفعاً أكثر من الطبيعي.

اتخذت قراراً بمحاولة إجراء نقل دم لها. عادة يكون قرارٌ كهذا أمراً بسيطاً لكن في حالة الأطفال المصابين بسوء التغذية يمكن أن يكون نقل الدم خطراً إذ أن أجسامهم تجد صعوبة في التأقلم مع تسريب سوائل إضافية. توجب عليَّ أن آخذها إلى مستشفى وزارة الصحة القريب لإجراء نقل الدم. وبالرغم من حرص كوادر المستشفى على تقديم المساعدة في مثل هذه الحالات إلا أن مشاكل التيار الكهربائي لا تساعدهم في الحفاظ على بنك دم فعال، لذلك عادة ما يحتاجون إلى تبرُّع أفراد الأسرة بالدم لإجراء النقل. في اليوم الأول الذي أحضرت فيه ماري لم يكن هنالك كهرباء في المختبر لذلك لم يكن ممكناً إجراء الاختبارات اللازمة على المتبرعين المحتملين، لذلك وجب أن أحاول في اليوم التالي.

معظم الأمور هنا لا تسير بشكل سلس، لكنها عندما تنجح تكون النتائج مجزية. في اليوم التالي كان التيار الكهربائي متوفراً وكان يمكن لوالد ماري، واسمه داك، أن يتبرع بالدم اللازم. ونحن هنا الآن لنُقِلَّهما، وأستطيع أن أرى داك خارج الجناح وعلى وجهه ابتسامة مشرقة، وبجانبه ابنته التي تبدو أكثر بهجة من ذي قبل. خلال الأيام القليلة التالية كانت صحة ماري تتحسن باستمرار وكانت تتجاوب بشكل جيد للحليب العلاجي وبعد ذلك لغذاء "بلامبينات"، وكانت تستعيد قوتها يوماً بعد يوم تحت رعاية ممرضي وطواقم مركز التغذية. كل يوم تقريباً كنت أرى والدها الذي كان يحييني دائماً ويبدو دائم الابتسام. كنت مهتماً بمعرفة قصته وقبل أن يتم تخريج ماري جلسنا سوياً لنتجاذب أطراف الحديث.

أخبرني داك أن عمره 52 عاماً، لكنه يبدو أكبر بكثير. ثيابه رثة وبالية، إلا أنه رغم افتقاره للجوانب المادية لا يفتقر للصراحة والعاطفة. ولِد داك في قرية قرب بنتيو لكنه يعيش الآن قريباً من المدينة. كان متزوجاً قبل زواجه الحالي لكن زوجته قضت بسبب الكالازار. يعمل داك في الزراعة ويحاول تأمين مستلزمات الحياة لأسرته، والمحصول الرئيسي لديه هو الذرة. لديه أيضاً ثلاث بقرات توفر كمية قليلة من الحليب. وفي بعض أوقات السنة يقوم بالصيد من النهر بالشباك أو بالصنارة.

قبل أن يتزوج من زوجته الحالية كان عليه أن يقدم 40 بقرة، الأمر الذي تطلب جمعه ثلاث سنوات. لديهما الآن أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية. ابنهما الأكبر في المدرسة وجزء من عائدات محصول العام الماضي ستذهب للرسوم المدرسية والزي المدرسي والأقلام والدفاتر. أخبرني أن ما تبقى من غذاء من محصول العام السابق قد نفد قبل شهر في أبريل/نيسان، والآن تعيش الأسرة مما يقدمه الأقرباء. "سبب معاناتنا هو عدم وجود مكان للعمل، إذ نعتمد فقط على ذوي القربى".

يحتاج محصول العام الحالي إلى ثلاثة أشهر على الأقل قبل أن يصبح جاهزاً. لم أستطع إجبار نفسي على سؤال داك كيف سيتأقلم مع الوضع حتى ذلك الوقت، وماذا سيقرر أن يصنع بعائدات محصول هذا العام، هل سيتمكن من إطعام أسرته وإرسال أطفاله إلى المدرسة؟ بل سألته ببساطة عما هي آماله للمستقبل. فقال: ’أدعو الله أن يحل السلام في جنوب السودان وأن يحقق الجيل الجديد الخير للبلاد‘.

* تم تغيير الأسماء لغرض الحفاظ على الخصوصية