تمرير

جروح أهالي غزة تقف شاهداً على ظروف حياتهم

26 فبراير 2018
قصة
الدول ذات الصلة
الأراضي الفلسطينية المحتلة
شارك
طباعة:

بدأت فرق أطباء بلا حدود العمل في فلسطين في عام 1989، وفي عام 2000 بدأت بتكييف الرعاية لتناسب الاحتياجات المتغيرة لأهالي غزة. وتقدم فرق المنظمة الآن رعاية ما بعد العمليات (الضمادات، المعالجة الفيزيائية وإعادة التأهيل) لنحو 5 آلاف من مصابي الحروق والإصابات البالغة في عيادات أطباء بلا حدود الثلاثة في قطاع غزة. ونطلُّ من خلال نافذة هذه الجروح وما يرويه أصحابها على واقع الحياة اليومية في غزة.

بداية، غزة منطقة مطوَّقة. فهي قطعة من الأرض يبلغ طولها 42 كيلومتراً وعرضها 12.5 كيلومتراً كحد أقصى. ويستطيع المرء قطع المسافة من شمال غزة إلى جنوبها خلال ساعة ونصف بالسيارة.

يحيط بغزة البحر من الغرب، و"حاجز أمني" من الشرق (وهو سياج من السلاسل تعلوه أسلاك شائكة)، ومن الشمال تم بناء جدار بارتفاع عدة أمتار لمنع الناس من قطع الحدود. وهناك جدار آخر قيد الإنشاء تحت الأرض. هذه المنطقة تضم ما يقارب مليوني إنسان.

webp.net-compress-image.jpg

الكثيرون من سكان غزة لم يتمكنوا من مغادرتها أبداً، لا سيما منذ فرض الحصار على القطاع من قبل إسرائيل بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2007. حسن، ذو الاثنين وعشرين عاماً، أصيب بطلق ناري على الحدود في ديسمبر/كانون الأول، ويقول: "غادرت غزة مرة واحدة فقط في حياتي. كان ذلك لإجراء عملية جراحية في مصر عندما كان عمري 8 سنوات. ولا أذكر أي شيء عن ذلك الوقت!".

webp.net-compress-image_3.jpg

ومازال الإسرائيليون حتى اليوم لا يعطون تصاريح مغادرة إلا بأعداد ضئيلة، فبين عامي 2016 و 2017، انخفض العدد بنسبة 50 في المئة. ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن معدل عدد الذين يسمح لهم بقطع الحدود دخولاً أو خروجاً كل يوم خلال الستة أشهر الأولى من عام 2017 كان 240 شخصاً فقط – لأغراض تجارية أو دراسية أو لأسباب طبية أو كونهم أعضاء في منظمات دولية. أما بالنسبة للبقية فالخروج مستحيل. ويقول حسن: "لا نمتلك الحق في السفر كباقي البشر، لكننا بشر".

أطلقت أطباء بلا حدود برنامجاً للجراحة التقويمية في عام 2010 لمعالجة نقص توفر الرعاية الصحية الناتج عن هذه القيود المفروضة على السفر. ويأتي جراحون وأطباء تخدير من بلدان أخرى لمساعدة الفريق التمريضي الفلسطيني بإجراء العمليات الجراحية المعقدة أو غير المتوفرة في غزة.

الكهرباء من 4 إلى 6 ساعات فقط في اليوم

تعكس مشاكل الكهرباء الواقع المعيشي اليومي الصعب الذي يعيشه الناس في غزة. وقد زاد سوء هذا الوضع أكثر في الربيع الماضي بسبب مشكلة داخلية بين السلطة الفلسطينية وحماس. ولأشهر طويلة لم يكن الغزيون يحصلون سوى على ساعتين أو ثلاث ساعات من الكهرباء خلال الأربع وعشرين ساعة، وغالباً ما كانت تأتي ليلاً.

webp.net-compress-image_13.jpg

وقتها كان الكثير من المرضى يخبرون طواقم أطباء بلا حدود أن زوجاتهم ينهضن في منتصف الليل لتحضير الطعام وتشغيل الغسالة. وفي إحدى المرات علق أحد المرضى بالقول: "إن زوجتي امرأة عظيمة!" أحد كوادر أطباء بلا حدود، أبو عبد، وهو المستشار الطبي لمشروع المنظمة في غزة قال لنا أن أطفاله يضطرون للاختيار بين أشياء لا يضطر الأطفال عادة لها. "هل سأستخدم ساعتي الكهرباء لشحن الهاتف الجوال؟ أم لمشاهدة الرسوم المتحركة؟ أم لوضع بعض العصير في البراد؟" وقد أصبح الحفاظ على الطعام مبرداً أمراً مستحيلاً في الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة في غزة فوق 30 درجة مئوية.

تحسن الوضع بعض الشيء لكن مازال على الناس أن يكتفوا بأربع ساعات إلى ست ساعات من الكهرباء كحد أقصى في اليوم.

webp.net-compress-image_4.jpg

وتشرح جدة الطفل أسيد ذي الأربعة عشر شهراً، والذي أدخل المستشفى لعلاج حروق أصابت يديه: "خلال ساعات وجود الكهرباء نحاول فعل كل شيء في نفس الوقت. نستعجل في القيام بالأمور وهذ الأمر يزيد من المخاطر على الأطفال".

35 في المئة من المرضى في عيادات أطباء بلا حدود هم دون سن الخامسة و60 في المئة دون سن الخامسة عشرة.

ظروف معيشية مستمرة في التدهور

حيث أنهم مضطرون للعيش في عزلة، عليهم أن يتكيفوا مع الوضع والاكتفاء بالموجود.

لكن الظروف المعيشية في غزة ومنذ سنوات تواصل التدهور ببطء. من منظور خارجي، ترى أن جميع المباني التي تهدمت في هجوم عام 2014 قد تمت إعادة بنائها – بدعم من تبرعات دولية – لكن نظرة أقرب تكشف عن أن ما يقارب نصف السكان ليس لديهم أمن غذائي. ويضطر الناس لتدبر أمورهم بما هو متاح وقد أصبح التضامن الأسري أحد أهم أركان التكيف والمقاومة.

webp.net-compress-image_1.jpg

عبد الرحيم، 30 عاماً، هو أحد المرضى ويتلقى العلاج في عيادة أطباء بلا حدود في غزة، يقول: "عندما لا أملك المال الكافي لشراء الطعام، أسال الناس القريبين مني. أحياناً تقرضني زوجة أبي 15 شيكل. أشعر بحرج شديد، لكنها تقول لي أننا أسرة واحدة وأنني مثل ابنها وعلينا أن نساعد بعضنا البعض الآخر".

الحصول على الماء النظيف يعتبر مشكلة كبرى لسكان غزة. وأكثر من 95 في المئة من المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري ومياه الصنبور مالحة جداً. هناك شركات خاصة توزع الماء لكنها لا تشكل سوى جزءاً بسيطاً من الحل.

كما أن نظام معالجة مياه الصرف والتخلص منها غير ملائم. فمياه الصرف يتم ضخها في البحر، لذلك لم يعد بإمكان الناس الاستحمام فيه. والبحر الذي كان من شأنه أن يكون مصدر دخل لسكان غزة، مقيَّد بالتلوث والقيود المفروضة على الصيد من قبل الإسرائيليين.

حوادث منزلية متكررة

ومع ذلك، تستمر الحياة في غزة، والكثير من الأسر تعيش في بيوت متواضعة وتغتنم أوقات وجبات الطعام ليتشاركوا لحظات من البهجة. البعض ما زالوا يطهون الطعام ويحضرون الشاي على مواقد غير ثابتة أو على النار التي يوقدونها على الأرض. والكثير من مصابي الحروق البالغة يُحالون إلى عيادات أطباء بلا حدود إثر حوادث منزلية ناتجة عن مثل تلك التصرفات. وثلثا حالات الحروق سببها سوائل ساخنة.

webp.net-compress-image_12.jpg

وهذا ما حدث لشهد ذات الخمسة عشر شهراً قبل عدة أشهر. حيث انسكب عليها إبريق شاي كان على موقد من النار أثناء اجتماع للأسرة. وتقول أمها: "إن رؤية ابنتنا في ذلك الوضع تدمي القلب. ومن حينها لم نعد نصنع الشاي". أما أسماء ذات الستة أعوام ونصف، فقد انسكب عليها إناء فيه ماء مغلي أراد والدها أن يستحم به".

الحروق الناتجة عن انفجار مولدات الكهرباء التي يستخدمها بعض الناس لتعويض نقص الطاقة الكهربائية من الشبكة العامة شائعة أيضاً كحال الحروق الناجمة عن التماس المباشر مع النار.

64.9 في المئة نسبة البطالة بين الشباب

تعيق القيود المفروضة من قبل إسرائيل على حركة البضائع والناس اقتصاد غزة. مثلاً، يتم حجز مواد البناء على الحدود وكذلك بعض المعدات الطبية التي يشتبه بإساءة استعمالها. ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في الربع الثالث من عام 2017، بلغت نسبة البطالة 46.6 في المئة في حين بلغت نسبة البطالة بين الشباب 64.9 في المئة.

webp.net-compress-image_4.jpg

"نحن متعلمون، ولسنا أغبياء. نجمع الشهادات الدراسية والعلمية وينتهي بنا المطاف بلا عمل. وإذا لم نعمل لا يمكننا أن نحيا حياة لائقة". حسن، 22 عاماً، طالب محاسبة في السنة الرابعة.

أصيب عبد الرحيم ، 30 عاماً، بطلقات في ساقه ويده بينما كان في مظاهرة على الحدود بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي في ديسمبر / كانون الأول اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. لا يستطيع عبد الحركة الآن ويتم نقله بالنقالة إلى عيادة أطباء بلا حدود ثلاث مرات في الأسبوع.

كان عبد يعمل في البناء. ويقول واصفاً الوضع: "تعمل لشهر واحد ثم تجلس لثلاثة أشهر بدون عمل. في الأشهر التي لا أجد فيها عملاً أذهب إلى سوق النحاس. أشتري بما قيمته 20 شيكل على أمل أن أبيعه بـ 25. لكن أسطوانة الغاز للطبخ تكلف ما بين 60 إلى 70 شيكل".

"كل ما تكسبه هنا، تخسره في نهاية المطاف"

بعد القتال الذي دار بين أنصار كل من حماس وفتح في عام 2007، والهجمات الثلاثة التي شنتها إسرائيل في 2008-2009 و 2012 و 2014، وعشر سنوات من الحصار، يعاني الناس الأمرين في تدبر أوضاعهم، ولا يجد الشباب أملاً حقيقياً بالمستقبل في قطاع غزة.الكثيرون يعيشون مما يكسبونه من أعمال عارضة، تتخللها فترات من البطالة، كما يصف محمد م.، 22 عاماً، الذي أصيب بطلق ناري في أحد أيام يونيو/حزيران 2017 على الحدود مع إسرائيل حيث ذهب للاحتجاج حاملاً بيده علم فلسطين: "كنت أعمل صياداً ودهاناً، وعملت كذلك في البناء وفي المطاعم. لم أتمكن من العمل منذ أن تعرضت للإصابة. لدي سبع مهن لكن الحظ قليل". فارس، عمره 22 عاماً أيضاً، وقد تعرض لنفس ما تعرض له محمد قبل بضعة أسابيع. ومنذ أن التقيا في عيادة أطباء بلا حدود أصبحا لا يفترقان عن بعضهما. ويقول فارس: "إن كل ما تكسبه هنا، تخسره في نهاية المطاف".

هذه النظرة مشتركة على نطاق واسع بين الشباب (في العشرينيات من العمر) الذين يتوجهون مراراً إلى الحدود الإسرائيلية للتعبير عن غضبهم وشعورهم بالظلم – مخاطرين بتعريض أنفسهم للإصابة أو حتى للموت. ومنذ ديسمبر/كانون الأول، شارك الكثير من الشباب في مظاهرات نظمتها جهات عديدة في غزة احتجاجاً على اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد شهدت منظمة أطباء بلا حدود زيادة حادة في أعداد المصابين الذين أُدخلوا عياداتها في غزة – من 19 مصاب في نوفمبر إلى 162 في ديسمبر ونحو 200 في يناير. ومعظم الإصابات ناتجة عن طلقات نارية على الأطراف السفلية.

كما يقول محمد ح.، فقد نشأ الشباب وهذا العنف يحيط بهم. "عندما رأيت ساقي تتمزق بفعل الطلقة المتفجرة، لم يغمى علي، فقد أصبحنا معتادين على ذلك. وقعت عدة حروب وشاهدنا خلالها أصدقاءنا يصابون".

يخيم هنا شعور لدى الناس بأن ليس لديهم ما يخسروه. ويقول عبد الرحيم متسائلاً: "علينا أن نذكّر أنفسنا أننا موجودون، فإن لم نذكّر أنفسنا من سيذكِّرنا؟". ويضيف مصطفى: "إنها الطريقة الوحيدة التي أمامنا لنظهر ما نشعر به، ما تشعر به غزة. ماذا عسانا نفعل غير ذلك؟".

لا فائدة من الحديث معهم عن المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية، بين القادة السياسيين أو المجتمع الدولي. ويقول حسن: "جميعهم يبحثون عن مصالحهم". ورداً على سؤال: "هل ترى أملاً لغزة؟" كان رده كرد الكثير من الغزيين غيره: "إن شاء الله".

webp.net-compress-image_7.jpg