في مناطق الحروب، يلعب عامل السرعة دوراً حاسماً في قدرة طواقمنا على إنقاذ حياة المصابين وخاصةً حين يحتاج الأمر لإجراء عمليات جراحية لإنقاذ حياة من تعرض لجروح أثناء الاقتتال أو أصيب بأحد الانفجارات. ولكن إعداد مكانٍ ما ليشبه غرفة العمليات يستغرق وقتاً طويلاً، والمحافظة على ظروف التعقيم ليست بالأمر السهل. عن تطوير مقاربة جديدة، يكتب مدير الإمداد اللوجستي بيوتر في هذه التدوينة...
في آخر يومٍ لي في العراق، سُئِلت عن رأيي في المشروع الذي كنت أعمل فيه. أجبت بحماسة، وبدون أي تفكير: رائع!! . ولما طُلِب مني أن أصف المشروع في جملة كاملة فكرت: إنه من المستحيل أن يصف المرء بجملةٍ واحدة ما فعلناه في هذا المشروع. وذلك لأن مشروع مقطورة الجراحة كان أفضل ما قدمته في حياتي على الصعيدين المهني والشخصي. لقد أتيحت لي الفرصة لأن أواكب المشروع في كل خطوةٍ من خطواته. منذ مرحلة التأسيس واتخاذ القرار حول المكان الذي سيتم تنفيذه فيه. وقد تبيّن أن القرارات التي تم اتخاذها كانت قراراتٍ صائبة، وذلك بفضل الأشخاص الرائعين الذين عملت معهم؛ وأيضاً بسبب المرضى الذين عملت معهم عن كثب من خلال هذا البرنامج.
في منظمة أطباء بلا حدود علينا أن نتحلى بالمرونة. في نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2016 تم إلغاء سفري إلى مهمتي التالية مع أطباء بلا حدود في اللحظة الأخيرة.
عملي هو مدير إمداد لوجستي أي أنني مسؤول عن الجانب التقني من المشاريع، وإلغاء تلك المهمة يعني أنني سأمضي الأسابيع القليلة القادمة، أي الجزء البارد من السنة، في موطني. ولكن بعد بضعة أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً يقول بأن إحدى فرق الطوارئ التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود قد بدأت بتأسيس مقطورة الجراحة المتنقلة (Mobile Unit Surgical Trailer)، وقيل لي أنه يمكنني الانضمام إليهم بينما تأتي مهمتي التالية. وهكذا، خلال ثلاثة أيامٍ من ذلك الاتصال، انضممت إلى ذلك الفريق في مقر إحدى الشركات التي نتعاون معها في هولندا لأبدأ بالعمل على مقطورة الجراحة.
في مناطق الحروب، تواجهنا حالات تكون بحاجة ماسة لإجراء عمليات جراحية سريعة، ولكن الظروف في خطوط القتال يمكن أن تتغير بسرعة كبيرة. يتعيّن علينا أن نكون في موقع قريب من مناطق القتال لنتمكن من معالجة المصابين بالسرعة المطلوبة، ولكن في نفس الوقت علينا أن نضمن سلامة طواقم عملنا وسلامة المرضى أيضاً مما يعني أنه علينا أن نكون مستعدين للإخلاء فوراً في حال اقترب الخطر منا أكثر مما ينبغي. إن إيجاد منشآتٍ أو أماكن ثابتة يقوم بها أطباؤنا بإجراء العمليات الجراحية ليس دائماً أمراً ممكناً، بينما المنشآت المتنقلة، كالخيام، يصعب الحفاظ فيها على جو التعقيم اللازم لإجرء تلك العمليات. يقوم مشروع مقطورة الجراحة على فكرة "التوصيل والتشغيل" أي أن تكون غرفة العمليات جاهزة ويمكن توجهها فوراً إلى حيث توجد حاجة إليها وأن تكون محصّنة بما يكفي لتحمل الظروف القاسية في ساحات القتال وأن تكون عقيمة لتفادي حدوث أي تلوث أو انتشار أية عدوى.
الأهداف: بناء عيادة جراحية متنقلة متكاملة مستقلة تتألف من خمسة حاويات مركَّبة على مقطورات. تكون العيادة قادرة على العمل بشكل مستقل لمدة 24 ساعة متواصلة على الأقل وهذا يعني توفر كل ما هو مطلوب من ماء وكهرباء ومواد لإجراء 10 عمليات في يوم واحد. الزمن اللازم لوضع المقطورة قيد العمل ساعتان. والأهم من ذلك كله زمن التسليم: فقط 16 يوماً!! يبدو الأمر غير قابلٍ للتصديق أليس كذلك؟ فعلاً يبدو كذلك، ولكن سرعان ما عرفت السبب – فقد بدأت معركة الموصل في العراق والحرب لن تنتظر، وهذه العيادات ستتجه إلى هناك.
لقد بدأت معركة الموصل في العراق والحرب لن تنتظر. هذه العيادات ستتوجه إلى هناك.
في الأيام الأولى من المشروع أدركت أنني كنت محظوظاً، فالفريق الذي كنت أعمل معه على جانبٍ كبيرٍ من الخبرة ويمتلك كل ما يلزم من المعرفة التقنية والطبية لتنفيذ الهدف. كانت الخطة قد وضعت مسبقاً: الجزء الأساسي هو حاوية بسعة 40 قدماً مصممة كغرفة عمليات. ثم حاوية للعناية المشددة وثالثة للتعقيم ورابعة كصيدلية وخامسة كمخزن لوضع الأدوات والمستلزمات.
كانت الحاويات قد أُعِدَّت مسبقاً من قبل الشركة التي نتعاون معها فكانت معقمة ومزودة بأنظمة معالجة للمياه وفي كلٍ منها خزانان أحدهما للمياه النظيفة والآخر للمياه المستخدمة، وتكييف الهواء، بالإضافة إلى أرضيات وأجهزة إضاءة مضادة للبكتيريا. وكان علينا أن نقرر ما الذي سنستخدمه من معدات أطباء بلا حدود لنجعل المستشفى جاهزاً لإجراء العمليات. والمعدات هي مجموعة من الأجهزة الضرورية لحل المشكلات المختلفة المتعلقة بالاحتياجات اللوجستية.
أما ما يُعَدُّ بمثابة القلب النابض لمشروع مقطورة الجراحة فهو مولد كهرباء باستطاعة 41 كيلو فولت أمبير. ولدينا مولد إضافي للاحتياط وهما مركبين ضمن أقفاص معدنية أمام الحاويات مع خزانات للديزل مصنوعة من مواد صلبة سعة كلٍ منها 330 لتر تكفي لما مجموعه ثلاثة أيامٍ ونصف اليوم من الاكتفاء الذاتي من الطاقة الكهربائية، وقد تم عزلها بطريقةٍ محكمة لحمايتها من الاهتزاز وكتم الصوت الصادر عنها، مما يجعلها تبلي بلاءً حسناً في الميدان.
العقبة الكبرى كانت في كيفية جعل الحاوية الخامسة تستوعب كل تلك المواد والملحقات الإضافية. فقد كان علينا أخذ خيام بما فيها خيمة قابلة للنفخ مع كافة المعدات.
الخيام القابلة للنفخ تُنفَخ بسرعةٍ كبيرة – يستغرق الأمر 10 دقائق فقط لتصبح جاهزة، وذلك باستخدام مولّد ومنفاخ كهربائي.
الغاية من هذه الخيام هي توفير إمكانية استخدامها للفرز: خيمة تخصص للأشخاص ذوي الإصابات الأقل خطورة (وتسمى خيمة "احتمال الخطر" أو "الحالة الخضراء") وخيمة للعمليات الجراحية، وخيمة للحالات التي يتم تحويلها إلى جهةٍ أخرى. كما يجب أن يتوفر في الخيمة أيضاً مكان لكافة المواد والمستلزمات اللوجستية- ويتضمن ذلك المعدات الكهربائية، والمياه ومواد التعقيم، والمعدات الكمبيوترية وبعض الأشياء الضرورية لتوفير حياة معقولة لفريق العمل. نقوم بوضع كل هذه المعدات والأدوات العامة في صناديق كل على حدة مع وضع قائمة بالمحتويات لتسهيل العثور على ما يحتاجه المرء دون عناء لدى إخراج المعدات من تلك الصناديق. ونقوم بعد ذلك بوضعها على رفوفٍ داخل الحاوية.
كنا نعمل دون توقف على مدار 11 – 12 ساعة يومياً. والنتيجة؟ نعم.. لقد نجحنا، وقمنا بإنجاز العمل من تركيب وتوضيب وتجهيز خلال 16 يوماً.
والآن حان وقت العودة إلى المكتب والعمل على التجهيز للشحن ووضع دليل استخدام لمقطورة الجراحة. وأنهى الفريق هذه المهمة خلال أسبوعين وكانت النتيجة إعداد أفضل دليل استخدام رأيته خلال عملي في أطباء بلا حدود. فبقراءة هذا الدليل، يمكن لأي مختصٍ في الخدمات اللوجستية في أطباء بلا حدود أن يركب المقطورة لتكون جاهزة للاستخدام في الميدان، خطوة خطوة ودون أي تدريب. كما يمكن لهم إيجاد حلولٍ للمشكلات التقنية التي يحتمل حدوثها. إنه أمر مثير حقاً للإعجاب.
في اليوم التالي لعودتي من المهمة تلقيت اتصالاً هاتفياً للاستفسار فيما إذا كنت أحب أن أذهب إلى العراق كمدير للخدمات اللوجستية التقنية لمشروع المقطورة الجراحية؟ فأجبت بدون أي شك أو تردد: نعم. كنت أتمنى فعلاً أن أرى كيف سيكون المشروع على أرض الواقع.
أشخاص مصابون بطلقة قناص، ضحايا لأحد التفجيرات، ضحايا لاقتتالٍ عنيف نشب على بعد عدة كيلومترات: هذه هي الحالات التي نعالجها
وهكذا، بعد ثلاثة أسابيع وصلت إلى العراق. وكنا قد أرسلنا المقطورة إلى كردستان عن طريق البر. أي أنني كنت هناك حين وصل كل شيء. لقد قامت شركة الشحن التركية بعملٍ رائع وأوصلت العربات بحالةٍ ممتازة. لا شيء مفقود. والآن كان علينا اتخاذ مجموعةٍ من القرارات حول أين ومتى سنقوم بتركيب المعدات ووضعها قيد الاستخدام. ولم يكن من السهل اتخاذ قرارات كهذه إذ أن الأوضاع في الموصل كانت تتغير بسرعةٍ كبيرة. استطاعت قوات التحالف السيطرة على القسم الشرقي من الموصل في منتصف شهر كانون الثاني (يناير) 2017 وبدأت تعد للهجوم على الجانب الغربي من نهر دجلة. في واقع الأمر كان القتال للسيطرة على غرب الموصل لن يبدأ إلا بعد مرور شهر، ولكننا لم نكن نعرف ذلك في ذلك الحين.
في مكتب التنسيق التابع لنا في كردستان، التقيت بفريق العمل الجديد ومن جديد تبين لي كم أنا محظوظ. كان أعضاء الفريق أشخاصاً على مستوى عالٍ من الخبرة والانفتاح والحماسة للعمل مع منظمة أطباء بلا حدود. عكفنا على فحص كافة المعدات وتوظيف وتدريب بعض الأشخاص وشراء آخر ما ينقصنا من احتياجات. وقمت مع الزميل الآخر المسؤول عن الخدمات اللوجسيتة بتركيب المقطورة على سبيل التدريب في كردستان كجزء من التدريب العملي لطاقم العمل.
وأخيراً أصبح بإمكاننا اتخاذ القرار – سنقوم بتركيب المقطورة الجراحية على بعد 4 كم فقط من جبهة القتال، جنوب الموصل. وقد اتُخِذ هذا القرار بعد عدة استشارات ودراسات استراتيجية. على ما يبدو ستكون المقطورة أقرب مستشفى جراحي لمصابي الحرب جنوب الموصل وقد تكشَّف لنا مع مرور الأيام كم كان كبيراً عدد الحالات التي استقبلها هذا المستشفى.
أرانا منسق المشروع الموقع، وأشار بيده قائلاً "هنا".هذا ما كنا ننتظره طيلة الشهرين الماضيين- المكان الذي سيكون موقعاً للمشروع والضوء الأخضر لانطلاقه. من هذه اللحظة، كل شيء كان يُنجَز بسرعةٍ مضاعفة. كان علينا تجهيز الأرض، رصّها وتمهيدها والاتفاق مع مقاول لبناء الجدران والبوابات. وفي نفس الوقت كان العمل جارياً على تركيب مستلزمات المياه والتعقيم بالإضافة إلى توزيع العمل على الفريق الذي تم توظيفه والتعريف بالقواعد الأمنية واستئجار مقرات للعمل وأماكن لإقامة العاملين في المشروع... أي كل ما يلزم للبدء بمشروعٍ جديد.
رأينا قرىً مهدمة ومنازل دمرتها الهجمات الصاروخية واقتتالاً وأعمال نهب
أصبحنا جاهزين. استقرت الحاويات في أمكنتها بعد تسوية الأرض من تحتها وتمديد التوصيلات فيما بينها، ونصبت الخيام وتم تجهيزها بكافة المعدات وتم توصيل الكهرباء وتركيب أنظمة المياه والتعقيم واتخذ طاقم العمل كل منهم مكانه واستلم عمله... كنا سعداء تملؤنا الحماسة في ذلك اليوم. ولكن في اليوم التالي بدأ القتال وأدركنا بسرعةٍ لماذا نحن هنا. كانت الأرض تهتز مع احتدام المعارك واقتراب القتال من الموصل ثم أصبحت أصوات القذائف والانفجارات ملازمةً لأسماعنا على مدى الأسابيع التالية. لقد حان الوقت لمشروع المقطورة الجراحية لتقوم بما صُمِّمت من أجله.
على مدى الأسابيع التالية استقبلنا الكثير من الحالات وبشكلٍ شبه يومي. كنا كلما سمعنا صوت سيارة إسعاف نهرع إلى البوابة حيث هناك حاجة لمساعدة الجميع. وبالإضافةِ إلى الواجبات المترتبة علينا كخدماتٍ لوجستية كنا نساعد في نقل المصابين من سيارات الإسعاف إلى العيادة ومن العيادة إلى سيارة الإسعاف. كل سيارة كانت تحضر من خمسة إلى سبعة مصابين وسرعان ما يصبح المستشفى مملوءاً بالمرضى.
كنا نعمل 16 ساعة متواصلة بشكلٍ شبه يومي
أشخاص مصابون بطلقة قناص، ضحايا لأحد التفجيرات، ضحايا لاقتتالٍ عنيف نشب على بعد عدة كيلومترات: هذه هي الحالات التي كنا نعالجها، وذلك لأن عملنا كان يقتصر فقط على إجراء عمليات لإنقاذ حياة المصاب. وعلى الرغم من أننا كنا نحوّل كافة الحالات التي ليست حياة المصاب مهددة فيها لمرافق طبية أخرى، إلا أن المستشفى كان دائماً يعجّ بالمرضى.
كنا نعمل بشكلٍ متواصل على مدى 16 ساعة يومياً وبشكلٍ شبه يومي. وأصبحت العمليات الجراحية تجرى على مدى الأربع والعشرين ساعة على شكل مناوبات، وبعد العملية لم يكن بالإمكان إبقاء المريض لدينا أكثر من 24 ساعة كحد أقصى قبل أن يتم تحويله إلى مستشفى آخر؛ فقد كنا نحتاج السرير للمريض التالي. لا أستطيع تذكر عدد المصابين الذين تم استقبالهم وعدد العمليات التي أجريناها على وجه الدقة خلال الفترة التي كنت فيها هناك لكنني أتذكر وجوه كثيرٍ من الأشخاص الذين استطعنا إنقاذ حياتهم.
كيف هو أداء المقطورة الجراحية؟ جيد جداً. كل شيء يسير على ما يرام، وكما هو مخطط له، وتظهر فقط بضعة أمور بسيطة تحتاج للتعامل معها ويتم إصلاحها كل يوم. ولكن تبقى المشكلة الكبرى هي محدودية المكان في غرفة العمليات. هذه النقطة ستكون بؤرة تركيز لدى الإعداد لمشروع "المقطورة الجراحية 2" ولكن هذه قصة أخرى لوقت آخر. في الوقت الحالي نقوم بوضع خيمة ثانية من النوع القابل للنفخ للحصول على غرفة ثانية للعمليات لزيادة قدرتنا على إجراء المزيد من العمليات الجراحية.
لدينا حالياً طبيبان جراحان من جنسيات أجنبية يعملان جنباً إلى جنب مع أطباء عراقيين. ويتم العمل بشكلٍ متسق بين كافة طواقم العمل حيث يساعد كل منهم الآخر. إن الروح التي يدير بها فريق العمل هذا المستشفى كل يوم تثير الإعجاب. لقد عدت من العراق بمجموعة من الصداقات التي عقدتها هناك مع أشخاص هم اليوم منتشرون في عدة بقاع من العالم ولكن ما يجمعنا جميعاً هو الشعور بالرضا عن عملٍ أنجزناه بنجاح حين كنا هناك.
في اليوم الذي حان فيه وقت العودة إلى وطني أخذت أفكر: هل كان هذا المشروع متعباً؟ نعم. هل كان مثيراً لشتى أنواع المشاعر؟ جداً. وإذا سئُلت فيما إذا تكررت الفرصة هل كنت لأفعل ذلك من جديد؟ بالتأكيد. لأنه على الرغم من كل ذلك الجهد والسرعة والمشاعر والإرهاق فإن المقطورة الجراحية قد أعطتني الكثير من الرضا الذي يولد طاقة للاستمرار وهو أمر من الصعب أن يتكرر مرة أخرى.