تمرير

العراق: تضميد الجراح النفسية والعاطفية التي خلّفها النزاع

8 أكتوبر 2017
تدوينة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

إنّ السماء شبه بيضاء عند الظهيرة. أما نحن، فنصارع لإبقاء أعيننا مفتوحة، بعد أن بهرها انعكاس الشمس على الصخور بلون البيج في زقاق المخيم. إن درجة الحرارة في هذا القسم من العراق مرتفعة للغاية، بحيث تصل أحيانًا إلى 50 درجة مئوية. والحرارة في مئات الخيم مرتفعة للغاية، فيما تلقي شمس الظهيرة بأشعتها الحارقة وبشكل مباشر على مخيم حسن شام 2 الذي أصبح ملجأ موقتًا لـ28000 نازح عراقي من بين مليون نازح، بعد انقضاء 10 أشهر على الاقتتال في داخل الموصل وفي محيطها.

ويستقبلنا محمود الذي يرحّب بنا بابتسامته اللطيفة والودّية، قبل أن يدعونا للدخول إلى قاعة مشاورات متواضعة، وبيضاء اللون، ومكيّفة، وهي تقع في إحدى "الوحدتين" الجاهزتين التابعتين لعيادة منظّمة أطباء بلا حدود في المخيم. ويقول لنا إن:

"الوضع تحسّن منذ وصولنا إلى هنا. إذ نستقبل، في الوقت الحالي، المرضى بشكل أكثر حميمية وراحة. غير أننا لا نزال نواجه صعوبات في تقديم الدعم إلى جميع المرضى المحتاجين، نظرًا إلى أعدادهم الكبيرة، ونظرًا إلى صعوبة العثور على طاقم طبّي يمتلك المستوى الصحيح من الخبرة في العلاج النفسي والصدمات".

في البداية، كان الفريق يستجيب، في العام 2012، إلى اللاجئين السوريين، قبل أن تأتي الموجة الأولى من النازحين العراقيين في العام 2014. وبعد إطلاق معركة الموصل في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، استقبلت منظّمة أطباء بلا حدود موجة من اللاجئين. وعلى الرغم من تزايد الوعي إزاء الصحة النفسية، لا يزال معظم الأشخاص لا يطلبون هذه الخدمات بشكل تلقائي، ولا يعلمون حتّى أين يعثرون عليها. فضلاً عن ذلك، إنّ خدمات الصحة النفسية في العراق ترتكز بشكل رئيس في المستشفيات إلى الطب النفسي، غير أنّ معظم هذه المستشفيات تفتقر إلى العقاقير المناسبة. واللافت أن الدعم النفسي غير منتشر في المجتمع.

غير أنه وبعد أعوام من سيطرة ما يسمّى بتنظيم "الدولة الإسلامية" على أقسام كبيرة من العراق، وبعد عام من الاقتتال الكثيف بين قوات الأمن العراقية والدولة الإسلامية لاستعادة السيطرة على مدن في شمال العراق، فإن الجروح النفسية والعاطفية التي خلّفتها الحرب كبيرة، في حين يحتاج آلاف الأشخاص للدعم. فإن كثر، وحتّى بعد فرارهم من خطوط الجبهات، لا يزالون خائفين على سلامتهم وقلقين على مستقبلهم.

ويقول محمود إن:

"الأشخاص الذين يأتون إلى هنا خسروا كل شيء. نرى هنا رجالاً ونساء وأطفالاً من شرائح الأعمار المختلفة. في الواقع، إن الضائقة المتعلقة بالصدمة هي حالة يصعب كثيرًا التعافي منها. فهي تأتي مع أعراض مثال الاكتئاب والقلق... نجلس معهم، ونصغي إليهم، ونتحدّث معهم، وبعد جلسات علاجية عدّة، يشعرون بتحسّن، ويستعيدون الأمل بالحياة. ويساعدهم ذلك في إيجاد معنى لحياتهم، بعد أن عانوا كل هذه المشاكل. كثيرون لم يعودوا يثقون بأحد. أمّا هنا، فيلتقون بأشخاص يهتمّون لأمرهم، ويمنحونهم وقتهم واهتمامهم، ويعاملونهم بكرامة.. يعاملونهم على أنهم بشر. معنا، يستردّون كرامتهم. ومن الجيد أن يرى المرء بصيص نور في هذه الظلمة. كما أنّه من الجيد بالنسبة إلي كلاجئ أن أتمكن من مساعدة أشخاص آخرين".

محمود يعاين ما معدّله 25 مريضًا في الأسبوع.

ويقول إن:

"كل شخص مختلف عن الآخر".

ويوضح قائلاً إن:

"قدرة الشخص على التعافي تعتمد على شخصيته، وإرادته، والدعم الذي يحصل عليه في المخيم. ونحن نتابع حالته عادةّ من ثلاثة إلى خمسة أشهر. فنجتمع بالمرضى إمّا في جلسات فردية تجمع الزوج بالزوجة، أو نقابل الأسر مع أطفالهم، أو نقابلهم أحيانًا ضمن مجموعات. لدينا حالات صعبة عدّة. أذكر رجلاً كان يخضع لعلاج بالأدوية قبل النزاع، غير أنّه لم يتمكن من الحصول على عقاقيره لبعض الوقت. وإن الطبيب النفسي، وكجزء من العلاج، قدّم له العقاقير التي هو بحاجة إليها، غير أنه أبى أن يأخذها. بالتالي، تعين عليّ وعلى عمّال الصحة المحليين زيارته لمرّات عدة لكسب ثقته، وجعله يفتح قلبه لنا. وهو الآن يمتلك متجرًا صغيرًا وهو قادر على الاهتمام بأسرته".

في العراق، وفي معظم مناطق النزاعات، يصل الرجال والنساء مع أسرهم إلى المخيّمات حيث يجدون مكانًا أكثر أمانًا ليعيشوا فيه، بعد إصابتهم بجروح أو بصدمات، وبعد رحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر. غير أنهم يجدون أنفسهم هناك من دون عمل، وهم غالبًا ما يعجزون عن مغادرة المخيم حتّى. ويشعر الرجال بأنّهم عاجزون عن تأدية واجبهم كمعيلين للأسرة، فيخسرون، بالتالي، حسّهم بالمنفعة الاجتماعية، والثقة بالنفس. أمّا النساء، فيضطلعن بالتالي بمسؤوليات إضافية. فكثيرات منهنّ قد أصبحن أرملات أو أنّ أزواجهنّ مفقودون، لذلك، عليهنّ الاعتناء بأطفالهنّ، في حين يحاولن تلبية أبسط الاحتياجات. هنّ يتحمّلن بمفردهنّ عبء المسؤوليات في الأسرة.

ويقول محمود:

"عرفتُ امرأة لديها ثلاثة أطفال. وكانت تعاني اكتئابًا حادًا. وكانت بالتالي عاجزة عن النوم أو الأكل، ولم تعد تكترث للحياة. وقد عزلَت نفسها عن الآخرين، حتّى أنها كانت تراودها أفكار بالانتحار. وقد أحيلت إلينا من منظّمة أخرى كانت تعمل في المخيّم، علمًا منها بأن المرأة كانت أيضًا بحاجة للعقاقير، وهو ما لم تكن تلك المنظّمة تقدّمه. أما المرأة، فقالت لي في أول مرّة التقيت بها: خسرتُ ابني. لا أعلم ماذا يدور في رأسي. عند السماح لها بالرحيل بعد ثلاثة أشهر من المتابعة، وبعد إعطائها مضادات الاكتئاب، قالت لي: لا يزال الألم يعتصر قلبي، غير أنني الآن يمكنني المباشرة بعيش حياتي. وقد أصبح الآن رأسي خاليًا من الجنّ".

وقد أصيب أطفال كثر بالصدمة من جراء الاقتتال والنزوح. وهم يعانون القلق، وتراودهم أحلام مزعجة بشكل دوري. ونظرًا إلى أنه يجب تجنب إعطاء العقاقير إلى الأطفال، تعتبر الجلسات العلاجية التي يجريها لهم المعالجون النفسيون الوسيلة العلاجية الرئيسة بالنسبة إليهم. واللافت أن الأطفال يمكنهم التعافي بطريقة أسهل وأسرع من البالغين، في حال كانوا يعيشون في بيئة آمنة. وفي المخيم بضع مدارس، غير أن أطفال كثر لم يكونوا يذهبون إلى المدرسة قبل النزاع. فهم يفضّلون، في المقابل، أن يركضوا الواحد وراء الآخر في أزقة المخيم، أو أن يستريحوا في ظل خيمهم في خلال ساعات اليوم الأشد قيظًا.

اليوم، تلاحظ فرق منظّمة أطباء بلا حدود أنّ أشخاصًا يعودون إلى منازلهم، وإلى المخيم في بعض الأحيان، إمّا لأنّ أحياءهم لا تزال غير آمنة، أو لأن منازلهم لم تعد موجودة بكل بساطة. وبالنسبة إلى أولئك الذين يعودون إلى منازلهم، كثيرون منهم لا يمتلكون القدرة على الوصول إلى المياه، أو الطاقة الكهربائية، أو ليس لديهم أي عمل. لذلك يعودون إلى المخيّم، لأنهم يجدون فيه على الأقل ملجأ، وتكون لديهم فيه القدرة على الوصول إلى المياه، والطاقة الكهربائية، والمساعدات الانسانية، والرعاية الصحية، والغذاء.

إن العودة إلى المنزل قد تساعد الأشخاص في التعافي، غير أن ذلك يصعّب عليهم متابعة العلاج، نظرًا إلى أن العائدين غالبًا ما يكونون خارج تغطية منظّمة أطباء بلا حدود، في حال كانت متابعتهم أمرًا ضروريًا. بالإضافة إلى ذلك، تكون لديهم، في مناطقهم، قدرة محدودة على الوصول إلى خدمات الصحة النفسية.

أكثر من 18000 استشارة منذ بداية العام.

في شهر أيلول/سبتمبر، كان 90000 نازح تقريبًا يعيشون في تسعة مخيمات حيث تعمل منظّمة أطباء بلا حدود، بين أربيل والموصل. وفي تلك المخيّمات، كانت منظّمة أطباء بلا حدود المنظّمة غير الحكومية الوحيدة التي تقدّم الرعاية النفسية إلى أشدّ المرضى تضررًا، وإلى المرضى كافّة الذين كانوا يعانون في السابق اضطرابات نفسية وتُركوا من دون رعاية من جراء النزاع.

ونظرًا إلى أن الاحتياجات كثيرة، لدى منظّمة أطباء بلا حدود طاقم كبير مؤلف من 6 أطباء نفسيين، و6 معالجين نفسيين، و7 مستشارين نفسانيين اجتماعيين، وطبيبين بديلين للصحة النفسية. ولدى الفريق القدرة على تقديم ثلاثة مكونات من رعاية الصحة النفسية، وهي: رعاية الطب النفسي للحالات الصعبة التي تتطلّب عقاقير نفسانية التأثير، والعلاج النفسي، والدعم النفسي-الاجتماعي بهدف العثور، إلى جانب منظّمات أخرى غير حكومية، على حلول عملية لحياة المرضى اليومية.

وتقول مديرة أنشطة الصحة النفسية في منظّمة أطباء بلا حدود بأربيل، ريناتا أر سانتوس، موضحة أن:

"مرضانا يمكن أن يكونوا قد أحيلوا إلينا إمّا من منظمات أخرى أو من فرقنا الطبية. ربما أتوا إلينا بأنفسهم أيضًا، في حال سمعوا عن خدماتنا. وفي تموز/يوليو 2017، أضفنا إلى فريقنا عمال صحة محليين. وهم يذهبون من خيمة إلى أخرى ليوضحوا إلى ساكنيها أن الأشخاص الذين يعيشون في بيئات مضطربة قد يعانون مشكلات في الصحة النفسية، وليعطوا معلومات عن الخدمات التي نقدّمها. كذلك، يزورون المرضى في حال فوّت هؤلاء الآخرون أحد مواعديهم. في السابق، كان المستشارون النفسيون-الاجتماعيون هم من يقوم بذلك، غير أنّ أعباء عملهم حالت دون قيامهم بهذا النشاط بشكل دوري".

عند وصول المريض إلى عيادة تابعة لمنظّمة أطباء بلا حدود، يقابل أولاً المستشار النفسي-الاجتماعي الذي يحيله، بعد تقويمه، إلى المعالج النفسي أو الطبيب النفسي في حال كانت حالته متوسطة الصعوبة أو شديدة الصعوبة، أو يقرّر متابعته شخصيًا، في حال كانت حالته متدنية الصعوبة.

منذ بداية العام، قدّمت فرق مشروع أربيل أكثر من 18000 استشارة في الصحة النفسية، وأكثر من 23000 استشارة طبية، من بينها استشارات للأمراض غير السارية (بخاصة داء السكري، والصرع، والربو، وارتفاع ضغط الدمّ).