تمرير

يد واحدة لا تصفق- مثل أفغاني

3 أكتوبر 2017
تدوينة
الدول ذات الصلة
أفغانستان
شارك
طباعة:

امرأة عربية ماهرة تتضامن مع المجتمعات التي مزقتها الحرب والمرض

حوالي الساعة الخامسة في صباح يومٍ شتويٍ بارد استُدعيت إلى غرفة الولادة لمعاينة مريضة قالوا بأنها "ليست على ما يرام". قفزت من سريري حيث كان قد غلبني النعاس قبل بضعة ساعات فاستسلمت للنوم مرتديةً حجابي وزيّ المستشفى. تناولت معطفي وارتديت حذائي وأسرعت خارجةً من الغرفة ثم عبرت الحديقة التي تُفضي إلى أرض المستشفى.

كانت نسمات الهواء البارد تلسع وجهي، وبعد أربعة أشهر من العمل في هذا المشروع، في أماكن محصورة كنت ألهث عند وصولي على الرغم من أن المسافة التي قطعتها مسرعةً لم تكن تتجاوز الدقائق الثلاث، فعبارة "ليست على ما يرام" في خوست تستخدم عادةً لوصف حالةٍ كارثية فيما يخص حالات المخاض والولادة.

حين وصلت رأيت امرأةً ليست من المرضى المسجلين لدينا تستلقي على الأرض في غرفة الولادة. كان ثوبها مغطى بالدماء، وقد أراحت رأسها في حضن مرافقتها التي كانت تهز جسدها إلى الأمام والخلف بينما كانت عيناها تفيضان بالدمع. كانت علامات الإعياء واضحة على القابلات والطبيب. فقد كانت هناك امرأة تلد على كل سريرٍ من أسرّة المستشفى بينما جلست أخريات القرفصاء على الأرض بين الأسرّة.

أخبروني أن المرأة كانت قد ولدت في منزلها في الليل ثم تم إحضارها إلينا في المستشفى وهي تنزف. كان على أسرتها أن تنتظر حتى طلوع الفجر ليتمكنوا من السفر بها إلينا بسبب الوضع غير الآمن. كانت المريضة غائبة عن الوعي ولكنها تتنفس وكان هناك نبض. وضعنا المريضة على نقالة وأسرعنا بها إلى غرفة العمليات ونحن ننادي على طاقم التخدير ونطلب من المرأة المرافقة للمريضة التوجه فوراً إلى بنك الدم..

3418f1cf-1bc3-4e17-8e38-dc290d9cdec6.jpg
الأطفال تحت مصباح العلاج بالضوء لمنع اليرقان، وحدة أمومة منظمة أطباء بلا حدود في كابول، أفغانستان.

وعلى مدى الساعات الأربع التالية قمنا بإجراءات الإنعاش للمريضة وبتنظيم عملية التنفس لديها (يدوياً) ثم أجرينا الجراحة. كان لديها تمزق في عنق الرحم يمتد حتى يصل إلى الرحم. كان علينا العمل بسرعة وكان لا بد لنا من استئصال الرحم وعنق الرحم لإيقاف النزيف.

احتاجت المريضة لعدة وحدات من الدم، وما إن استقرت حالتها حتى هرعت خارج غرفة العمليات أبحث عن المزيد من أكياس الدم. كانت ملابس المستشفى التي أرتديها مشبعة بالعرق، فتناولت معطفاً أبيض لأرتديه قبل أن أخرج إلى الخارج. أمسكت المرأة المرافقة للمريضة، وهي عجوز يخلو فمها من الأسنان، بمعطفي وهي تبتسم لي وتشير إلى عباءتها.

حاولت أن أبعدها عن طريقي وطلبت من إحدى القابلات أن تترجم لها قولي بأنني سأعود لأتحدث إليها ولكن عليّ أولاً أن أذهب لإحضار الدم. رفعت المرأة ذراعَها وأرتني كيس الدم الذي كانت تدفِّئه تحت ذراعِها ثم أعطته لي وهي تشد على يديّ. نظرت القابلة إليّ ثم غرقنا كلتانا في نوبة من الضحك حتى دمعت أعيننا.

45a961ca-eb40-4c06-ba25-5458d6eae427.jpg
نساء ينتظرن إستشارات إجراء ما بعد الولادة وتنظيم الأسرة في كابول، أفغانستان.

لقد عملت لمدة ستة أشهر كطبيبة أخصائية في قسم الولادة في مدينة خوست في أفغانستان في أكبر مشروع متكامل تنفذه منظمة أطباء بلا حدود لرعاية طوارئ حالات الولادة ورعاية الأطفال حديثي الولادة. في عام 2016 وحدَهُ أجرينا 21,335 عملية ولادة انتهت جميعها بسلام ما عدا أربعة حالات توفيت بها الأم أثناء وجودها في المستشفى. واستمرت حالات المراجعة للمستشفى من قبل نساء المنطقة في الازدياد.

كان الهدف من المشروع تفادي حدوث مضاعفات مباشرة أثناء الولادة للتقليل ما أمكن من احتمالات وفاة الأم أثناء الولادة أو تعرضها لمضاعفاتٍ خطيرة. لدينا فريق كبير من العاملين من أطباء وغيرهم ومعظمهم من السكان المحليين (من قابلات وممرضات وأطباء وأخصائيي خدمات لوجستية ومخبريين وأخصائيي صحة ونظافة ومديري بيانات وإداريين وحراس وسائقين).

في هذا العام، كثَّفنا جهودنا للوصول إلى البلدات التابعة لمدينة خوست معتمدين في ذلك على فرق مختصة بالترويج لنشاطاتنا الصحية وإعلانات في الراديو حول المؤشرات التي تنبّه إلى مشاكل قد تحدث أثناء الحمل والشبكات الاجتماعية. كما قمنا بزيادة الدعم للمراكز الصحية المنتشرة داخل التجمعات للتشجيع على الوصول إلى الخدمات الأساسية لضمان ولادات آمنة وكذلك العناية بالمواليد الجدد وضمان تحويل النساء اللواتي يحتجن لتلقي المساعدة الطبية إلى مستشفانا بدون أي تأخير.

87c31d7d-ec41-4b69-aa96-2b4008ba5f37.jpg
تقوم الدكتورة رشا خوري والفريق الجراحي بإجراء عملية قيصرية لتسليم طفل ألبرتين.

حين غادرت متوجهةً إلى أفغانستان كان أصدقائي وأفراد عائلتي يشعرون بالقلق، بل إن بعضهم كان يشعر بالرعب. أنا امرأة فلسطينية ولدت ونشأت في القدس الشرقية. صحيح أنني تابعت تحصيلي العلمي وتدريبي كطبيبة في الولايات المتحدة إلا أنني عدت إلى القدس الشرقية لأمارس مهنتي كطبيبة وأقوم أيضاً بالتدريس.

أتذكر أنني في طفولتي كنت أنظر مذهولة إلى السيارات التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود قد كتب عليها شعارها المميز "لا أسلحة" وذلك في مدينةٍ تنتشر فيها الأسلحة في كل مكان وحيث العنف جزء من مظاهر الحياة اليومية. انتسبت إلى أطباء بلا حدود في عام 2014.

كنت أبحث عن طريقةٍ أوظِّف فيها كل قدراتي ومهاراتي في شيء ذي معنى، كنت بحاجةٍ لأن أمارس إنسانيتي وأقدم الدعم للنساء وللمجتمعات التي أنهكتها الحروب، والفقر، والأمراض وفي الوقت ذاته يخشاها الآخرون، تماماً كالمجتمع الذي أنا جزء منه. كنت أيضاً أبحث عن طريقة لأكون فعلاً كما أشعر بأنني دائماً، إحدى مواطنات هذا العالم.

في عام 2014 كنت في سيراليون حين أجبر انتشار وباء إيبولا منظمة أطباء بلا حدود على إيقاف مشروعها لرعاية الحوامل وتركيز جهودها على اكتشاف ومعالجة الإصابات بمرض إيبولا، وفي العام 2016 عملت في لبنان (شاتيلا) وفي أفغانستان (خوست)، وفي عام 2017 عملت في ساحل العاج (كاتيولا) وفي العراق (الموصل).

لقد مثّل العمل مع منظمة أطباء بلا حدود نقلةً هامةً في حياتي الشخصية والمهنية فهنا حقاً أريد أن أعمل وأن أكون. إن الأثر الذي يمكن أن أتركه كامرأة عربية تتمتع بمهارات علمية على المجتمعات التي تحتاج إلى الدعم والمساندة والعمل ذا السوية العالية والمحدد برؤية هادفة أمور لا تقدَّر بثمن. هناك ألف امرأة يفقدن حياتهن يومياً بسبب مضاعفات تتعلق بالحمل. تضم فرق العمل التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود أفراداً من مختلف دول العالم أغلبهم يعملون في بلدانهم – وجميعهم يبذلون كل ما في وسعهم لتقديم الرعاية حيث لا يقدمها أحد غيرهم وبطريقةٍ لا تماثلها طريقة أخرى. يودّ المرء فعلاً أن يكون جزءاً من ذلك!

ملاحظة: تم نشر هذه المقالة في البداية على موقع العربية