تمرير

انتشال الجثث: رواية طبيب لواقع الحياة اليومية في سوريا

21 نوفمبر 2017
قصة
الدول ذات الصلة
الجمهورية العربية السورية
شارك
طباعة:

عادةً ما نفكر ببقايا الحرب على أنها قذائف، أو قنابل أو عبوات ناسفة لم تنفجر. ولكنني كطبيب مختص بجراحة الإصابات البالغة يعمل في مستشفى أطباء بلا حدود في تل أبيض أقرب المراكز الصحية الفرعية الحاوية على وحدة جراحة لمدينة الرقة فقد رأيت نوعاً آخر من البقايا – الإصابات القاتلة والأضرار التي تخلفها هذه الأسلحة.

إن الأثر الذي تخلفه المتفجرات شديدة الفعالية، كتلك التي تستخدمها الأطراف المتحاربة في الرقة، يمكن أن يكون كارثياًعلى الجسم البشري. في معظم الأحوال تكون الإصابات قاتلة إذا كان موقع المصاب غير بعيدٍ عن القنبلة أو الصاروخ أو القذيفة وعرضةً للإصابة المباشرة جرّاء الانفجار.

وإذا كان المصاب محظوظاً بما يكفي ليكون في موقع أبعد من أن يجعله عرضةً للإصابة المباشرة فلربما اقتصرت إصاباته على إصاباتٍ ثانوية جرّاء تبعات الانفجار وجراء الشظايا ذات الفعالية العالية والتي تؤدي إلى أضرار بالغة لمختلف أجزاء الجسم والأحشاء الداخلية كالنزيف داخل الصدر وتمزق الكبد أو الطحال أو الكلى وانثقاب المعدة أو الأمعاء والكسور العظمية المكشوفة مع ما يرافقها من إصابات الأوعية الدموية والأنسجة الرخوة.

بالأمس، وبينما أنا في جولةٍ على المرضى تم استدعائي إلى غرفة الطوارئ لمعاينة أختين شابتين.

msf203992_medium.jpg

كلتا الأختين قد فقدتا أحد أطرافهما بعد إصابتهما جرّاء قصفٍ جوي وقع قبل خمسة أيام، كان عليهما السفر ليومين كاملين للوصول إلى المستشفى في تل أبيض. إحدى الأختين تبلغ من العمر 20عاماً وقد بترت ذراعها من فوق المرفق، أما الأخت الأخرى والتي تبلغ من العمر 15 عاماً فقد بترت ساقها من فوق الركبة. وقد أخضعت كلٌ من الفتاتين لعمليتها الجراحية الأولى في مكانٍ آخر قبل وصولهما إلى مستشفى أطباء بلا حدود ولكن الجِراح التي خلفها البتر كانت قد خيطت على عجل مما أدى إلى وصول تلك الجراح إلى حالة سيئة من الالتهاب.

كان من الضروري أن تعود الأختان إلى غرفة العمليات بالسرعة الممكنة لفتح الجرحين من جديد واحتواء الالتهاب. جراحياً ليس لدينا خيار في مثل هذه الحالة إلا أن نوقف انتشار الالتهاب عبر تنظيف الجرح بشكل شامل وعميق وهو ما يعني القيام ببتر جزء إضافي من العضو المصاب. والآن الورك لدى الأخت ذات الخمسة عشر عاماً بحالةٍ من التضرر أدت إلى بتر الطرف السفلي بالكامل بدءاً من مفصل الورك، وبالتالي لن يكون من السهل تركيب ساق اصطناعية أي أن هذه الفتاة الشابة ستمضي جزءاً كبيراً من حياتها المستقبلية على كرسيٍّ متحرك، وهي حقيقة صادمة من الصعب تقبلها مهما كان عمرك.

قبل ذلك بيوم، وبعد أن كنت في غرفة العمليات توجهت إلى غرفة الطوارئ لتقييم حالة مصابٍ شاب يبلغ العشرين من العمر.

كان جسده ممتلئاً بما يطلق عليه عادةً وصف شظايا، ولكن في حقيقة الأمر فإن ما انغرس في جسده كان قطعاً معدنية هي أجزاء من القنبلة أو القذيفة أو من أجسام أخرى تشظَّت وتطايرت بفعل الانفجار. تلك الأجزاء اخترقت جسد الشاب مسببةً نزيفاً داخلياً شديداً وتمزقاتٍ في الصدر والبطن وكسوراً مفتوحة متعددة في الطرفين السفليين. ومباشرةً تم إدخال المصاب إلى غرفة العمليات فكل دقيقة لها أهميتها.

مرّت ساعاتٍ عديدةٍ وطويلة خضع الشاب خلالها لعدة عمليات جراحية لإغلاق الصدر واستقصاء البطن ولمعرفة مكان النزف وإيقافه واستئصال الطحال ومعالجة الكسور في الطرفين السفليين. لحسن الحظ فإن هذا الشاب يمكن أن يشفى شفاءً كاملاً ولكن ببطء. ليس هناك ما يميز هؤلاء المرضى الثلاثة عن غيرهم، ليس هناك ما يميز إصاباتهم عما عالجته على مدى الأسبوع الماضي، الإصابات ذاتها، والدمار ذاته.

إن نتائج العمليات الجراحية التي تجرى لمصابي الحرب تكون مرتبطةً بشكلٍ أساسي بعاملين حاسمين: الأول هو إجراء الإنعاش بالشكل الكافي وبالسرعة القصوى بعد وقوع الإصابة، والأمر الثاني هو سرعة ومدى كفاءة أول عملية جراحية فعلية يتم إجراؤها للمصاب عند وصوله إلى غرفة العمليات.

يشير مبدأ "الساعة الذهبية" إلى نظريةٍ مفادها أن أي تأخير في إجراء الإنعاش يؤدي إلى إِضعاف فرص النجاة. في شمالي سوريا لا يوجد إلا بضع نقاطٍ طبية قليلة قرب الخطوط الأمامية في مدينة الرقة يتم فيها إيصال المصاب إلى حالة الاستقرار، هذا إذا افترضنا أن المصابين تمكنوا من التحرك في المدينة للوصول إلى تلك النقاط. فمدينة الرقة تبعد مسافة ثلاث ساعات بالسيارة عن موقع مستشفى أطباء بلا حدود في تل أبيض. وتمكُّن المريض من اجتياز هذه الساعات الثلاث في سيارة الإسعاف بينما هو يعاني من إصاباتٍ بالغة تهدد حياته هو التحدي الأكبر.

msf197611_medium.jpg

في ظروفٍ تسيطر عليها حالة الصدمة تجد حتى أكفأ الطواقم الطبية وأكثرها تدريباً نفسها في سباقٍ مع الزمن لمواجهة آثار الجراحة على المصاب. وبعد حوالي سبع سنواتٍ على بدء الحرب، يعاني الشمال السوري من محدودية الخدمات الطبية ويتجلى ذلك في نقص الطواقم الطبية المدربة بعد أن هرب معظم العاملين في القطاع الطبي أو قتلوا أو هُجِّروا. المواد الطبية هي أيضاً قليلة جداً بسبب خطورة طرق المواصلات التي تستخدم لاستقدامها كما أن المنشآت الطبية قد دُمِّرَت أو تم إهمالها.

إنقاذ الأجساد من النتائج المروعة للأسلحة والمواد المتفجرة هو الحقيقة التي أعيشها يومياً في شمال سوريا. عالجنا على مدى الأشهر الماضية مئات الأشخاص الذين أصيبوا جرّاء الصراع الدائر في البلاد، وحتى مع تراجع الهجمات العسكرية حالياً ووضع نهاية لها فإننا نتوقع للأسف أن نستمر في رؤية الإصابات نتيجة وجود الألغام الأرضية أو العبوات الناسفة البدائية في الرقة. ما من شكٍ في أننا سنستمر في رؤية الآثار المدمرة للحرب جسدياً ونفسياً على السكان ولعدة سنواتٍ قادمة.

هاتفي يرنّ مجدداً، عليّ أن أنطلق إلى غرفة الطوارئ، ضحية جديدة من ضحايا الانفجارات في الطريق إلى المستشفى.