دكتور محمد أبو مغيصيب، طبيب الإحالة في منظمة أطباء بلا حدود بغزة
كانت الأشهر الستة الماضية الأصعب منذ سنوات عملي الـ15 مع منظمة أطباء بلا حدود في غزة، حتى مقارنة بأوقات الحروب في 2008 و2012 و2014.
بالنسبة لي، كطبيب من غزة عشت وعملت طوال حياتي فيها، أشعر وكأنني أعلم إلى أي مدى يمكن لهذه المدينة أن تتحمل. لقد كان من الصعب تحمل العدد الصادم من الجرحى الواصلين من منطقة السيّاج خلال الأشهر الأخيرة. لن أنسى يوم الإثنين 14 آذار\مارس. حيث وثّقت السلطات الصحية ما مجموعه 2271 إصابة في يوم واحد، وشمل ذلك 1359 إصابة بالرصاص الحي.
لقد كنت أحد الجراحين العاملين في مستشفى الأقصى، أحد أبرز مستشفيات قطاع غزة. فبعد الساعة الثالثة مساء بدأنا باستقبال تدفق المصابين القادمين من المظاهرة. حيث وصل ما يزيد على 300 جريح خلال أقل من أربع ساعات.
لم يكن قد مر عليّ هذا الكم من المصابين طوال حياتي. لقد كانوا مصطفين بانتظار دورهم لدخول غرفة العمليات، وكانت ممرات المستشفى مليئة بالجرحى، جميعهم كانوا يبكون ويصرخون وتسيل منهم الدماء. بغض النظر عن حجم الجهد المبذول وعن عددنا فلم يكن باستطاعتنا أن نتعامل مع هذا العدد الكبير من الجرحى. لقد كان عددهم كبيراً، كبيراً جداً. جميعها كان عبارة عن إصابات بطلقات نارية. لقد عمل فريقنا على مدار 50 ساعة متواصلة لمساعدة فريق وزارة الصحة. لقد ذكّرنا ذلك بالعمل أثناء الحرب عام 2014. ولكن بالحقيقة بغض النظر عن خبرتك فلا وجود لما يجعلك مستعداً للتعامل مع حدث كهذا.
لم يكن قد مر عليّ هذا الكم من المصابين طوال حياتي. لقد كانوا مصطفين بانتظار دورهم لدخول غرفة العمليات، وكانت ممرات المستشفى مليئة بالجرحى، جميعهم كانوا يبكون ويصرخون وتسيل منهم الدماء. بغض النظر عن حجم الجهد المبذول وعن عددنا فلم يكن باستطاعتنا أن نتعامل مع هذا العدد الكبير من الجرحى. لقد كان عددهم كبيراً، كبيراً جداً. جميعها كان عبارة عن إصابات بطلقات نارية. لقد عمل فريقنا على مدار 50 ساعة متواصلة لمساعدة فريق وزارة الصحة. لقد ذكّرنا ذلك بالعمل أثناء الحرب عام 2014. ولكن بالحقيقة بغض النظر عن خبرتك فلا وجود لما يجعلك مستعداً للتعامل مع حدث كهذا.
ما الذي نشهده اليوم؟
والذي نشاهده اليوم، لا يزال عبارة عن مزيد من الإصابات البليغة التي تصل إلينا. وغالبيتهم من الشبّان المصابين بطلقات نارية بأرجلهم والتي ترفع احتمالية الإصابة بإعاقات دائمة ستغيّر مجرى حياتهم. وفي كل نهاية أسبوع يعمل المستشفى على إخراج عدد من المرضى والمصابين بشكل مبكر بهدف توفير أسرّة للمصابين الجدد المتوقع قدومهم. فالنظام الصحي بغزة منهار ويقع تحت ضغط الطلب المرتفع والنقص المستمر. يتواصل تزايد أعداد المصابين الذين تعالجهم منظمة أطباء بلا حدود حيث وصلت نسبة الذين تلقوا العلاج عبر المنظمة إلى 40% من إجمالي عدد المصابين في غزة والذي يزيد عن 5000 شخص. لكن المهم هو استمرار توفير العلاج للمصابين بهدف توفير أكبر قدر ممكن من الرعاية المطلوبة. لكن ذلك أمر صعب للغاية على المستويين اللوجيستي والطبي. فهناك عدد كبير من المصابين يحتاجون لتدخل جراحي تقويمي متخصص للإصابات التي تعرضوا لها بأطرافهم، مما يعني إخضاع بعضهم لعدة عمليات جراحية، لكن ذلك غير متوفر حالياً في غزة.
"إن أكثر ما يثير قلقي هو خطر تعرض المصابين للالتهابات."
فالتهاب العظم والنقي هو أحد الالتهابات الذي يمكن أن يؤدي عدم شفاء الجروح في حال عدم علاجه، مما يرفع من أمكانية تعرض المصاب لبتر جزء من جسده. وكلما طالت المدة كلما ازداد الوضع سوءاً. هذه الالتهابات لابد من علاجها على الفور. إنه من المرعب التفكير باحتمالية تعرض هؤلاء الشبان الصغار للبتر. ولكن تشخيص الالتهاب ليس بالأمر السهل حيث لا يوجد في غزة أية منشآت أو معدات يمكنها تحليل عينات العظم وتحديد إذا ما كانت تحتوي على التهابات. ولذلك فإن منظمة أطباء بلا حدود تعمل على إنشاء مختبر للأحياء الدقيقة هنا، يهدف لتوفير الدعم والتدريب ليصبح قادراً على تحليل عينات العظام، إلا إنه وحتى بعد توفر الإمكانية للكشف عن الالتهاب، فإن العلاج يحتاج وقتاً طويلاً ودورة معقدة من استعمال المضادات الحيوية لكل مريض وتدخلات جراحية متعددة.
"أنا أتحرك داخل مختلف مناطق قطاع غزة، وأثناء ذلك يمكنني مشاهدة شبان على عكازات أو كراسي متحركة في كل مكان وعلى أرجلهم مثبتات داخلية. إن هذا المشهد بات اعتيادياً، وغالباً ما تراهم يتبسمون ويواصلون الحياة بالرغم من الإصابة. ولكن بالنسبة لي كطبيب، فأنا أعرف أن التأقلم طويل الأمد في حالتهم، أمر صعب جداً."
بالحديث إلى شاب يعرف أنه يمكن ان يخسر رجله بسبب إصابته برصاصة أدت إلى تفتت العظم، سألني "هل من الممكن أن أمشي مرّة أخرى؟"... إنه لأمر صعب. لأنني أعلم أنه طبياً، وبالاستناد على وضعه الصحي أجد أنه سيعاني حتى يقدر على المشي مرة أخرى. وكان يتوجب عليّ أن أخبره بوضعه وأن هناك خطر مرتفع لأن يفقد رجله. لقد كان من الصعب إخبار شاب مقبلٍ على الحياة بذلك. لكن الأمر لا يتوقف على شخص واحد فقط إنما هو حديث نخوضه بشكل دوري مع العديد من المرضى.
بالطبع نحن نواصل محاولة توفير العلاج لهؤلاء المصابين حتى في ظل المحددات التي نواجهها، من امتلاء المستشفيات والحصار المتواصل و الكهرباء التي تأتي لأربع ساعات في النهار، و نقص الوقود، ونفاد المخزونات الطبية وقلة الجراحين المتخصصين والمعدات الطبية المعطلة ولا سبيل لإصلاحها لعدم وجود قطع بديلة، والممرضين والأطباء المرهقين من العمل المتواصل بالمستشفيات بالرغم من عدم تلقيهم لمستحقاتهم منذ أشهر وأيضاً للمحددات الموضوعة على مغادرة المرضى لقطاع غزة بهدف تلقي العلاج في مكان آخر.. إن القائمة لا تتسع، وكذلك فإن الوضع العام يزداد تأزماً بشكل يومي في غزة. والحالتان الاجتماعية والاقتصادية انهارتا. والآن يمكن رؤية الأطفال يشحدون في الشوارع، وهو أمر لم نعتد رؤيته قبل سنة أو سنتين.
أمام منظمة أطباء بلا حدود جبل عالٍ لتتسلقه لكن ليس باستطاعتها فعل ذلك لوحدها. نحن نحاول، ونحن ندفع للأمام وكذلك نرى أهمية استمرارنا. بالنسبة لنا، يرتبط الأمر بالأخلاقيات الطبية. فهؤلاء الجرحى لابد لهم من أن يتلقوا العلاج الذي يحتاجون إليه. ولكن حيث أقف الآن وبنظرة سريعة إلى المستقبل لا يظهر لي سوى أنني أنظر خلال نفق شديد الظلام، ولست متأكداً من وجود النور بآخره."
الصور بعدسة: Alva Simpson White
التغطية مستمرة...